الطريق لتحقيق التنمية المستدامة
يحث التقرير الجديد للبنك الدولي الصادر بعنوان "النمو الشامل الذي يراعي اعتبارات البيئة: الطريق إلى التنمية المستدامة" الحكومات على أخذ الاعتبارات البيئية على محمل الجد في سعيها لتطبيق سياسات النمو الضرورية لاستمرار التوسع الاقتصادي في السنوات المقبلة. وأكد التقرير أن هذه السياسات يمكن أن تكون شاملة للجميع وأن تتسم بالكفاءة ويسر التكلفة دون أن تتسبب في الإضرار بالبيئة.
ويرسي التقرير إطاراً تحليلياً يأخذ بعين الاعتبار قيود الأنظمة الجوية والأرضية والبحرية في خطط النمو الاقتصادي اللازمة لمواصلة الحد من الفقر. ويدحض التقرير الأسطورة القائلة إن النمو المراعي لاعتبارات البيئة ترف لا تقدر عليه معظم البلدان- ويشير بدلاً من ذلك إلى العوائق المتعلقة بالسياسات والسلوكيات الراسخة وعدم توفر آليات التمويل المناسبة باعتبارها العقبات الرئيسية التي تحول دون ذلك.
نظرة سريعة
- النمو السريع ضروري لتلبية الاحتياجات الإنمائية الملحة لفقراء العالم. ولكن النمو لن يكون مستداماً على المدى الطويل ما لم يكن شاملاً اجتماعياً ومراعياً لاعتبارات البيئة – ويتحقق الشطر الأخير بضمان قدرة الأصول الطبيعية للأرض بشكل كاف على توفير الموارد والخدمات البيئية التي يعتمد عليها البشر.
- يتطلب النمو الشامل للجميع الذي يراعي اعتبارات البيئة التصدي للقيود المفروضة على الاقتصاد السياسي، والتغلب على السلوكيات والأعراف الاجتماعية الراسخة، وتطوير أدوات التمويل المبتكر لتغيير الحوافز وتشجيع الابتكار – وهكذا يتم تصحيح أوجه القصور المؤسسي بالسوق والسياسات التي تؤدي إلى الإفراط في استخدام الموارد الطبيعية.
- النمو الأكثر مراعاة لاعتبارات البيئة ضروري وفعال النتائج ومعقولة التكلفة. وينبغي أن يركز على ما يجب أن يحدث في السنوات الخمس إلى العشر القادمة لتجنب الوقوع في مسارات غير مستدامة وتتسبب في وقوع أضرار بيئية لا يمكن معالجتها إلى الأبد. ولكن كيف يمكننا أن نعرف أننا نحقق ذلك؟ يحتاج النمو المراعي لاعتبارات البيئة أيضا إلى مؤشرات أفضل لرصد الأداء الاقتصادي. فمؤشرات المحاسبة القومية كإجمالي الناتج المحلي لا تقيس سوى النمو الاقتصادي على المدى القصير، في حين أن مؤشرات مثل الثروة الشاملة – بما في ذلك رأس المال الطبيعي- تساعدنا على تحديد ما إذا كان النمو مستداماً على المدى الطويل.
التحدي
لقد أدى نمو وتوسع اﻻقتصاد العالمي إلى زيادة الرخاء ولكنه أدى أيضا إلى تحديات تتعلق بالتنمية المستدامة. فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، أدى النمو الاقتصادي إلى انتشال أكثر من 660 مليون نسمة من براثن الفقر وزاد من مستويات الدخل لعدد أكبر من الأشخاص بالملايين، ولكن النمو قد تحقق غالباً على حساب البيئة. ويعني تنوع الإخفاقات وأوجه القصور المؤسسية بالسوق والسياسات الميل إلى استخدام رأس المال الطبيعي للأرض بطرق غير كفؤة اقتصاديا وتنطوي على الهدر، دون حساب كاف للتكاليف الاجتماعية الحقيقية التي تنشأ عن نضوب الموارد، ودون إعادة الاستثمار بشكل كاف في أشكال أخرى من الثروة. وتشكل هذه الإخفاقات وأوجه القصور خطرا داهما على الاستدامة طويلة الأجل للنمو والتقدم المحرز بشأن خدمات الرعاية الاجتماعية. وعلاوة على ذلك، فعلى الرغم من المكاسب التي تحققت نتيجة للنمو، فإن 1.3 مليار نسمة لا يحصلون على الكهرباء، و 2.6 مليار لا يحصلون على خدمات الصرف الصحي، و 900 مليون لا يحصلون على مياه الشرب المأمونة والنظيفة. وبعبارة أخرى، فإن النمو لم يكن شاملاً بما يكفي بحيث يشمل الجميع.
والبلدان النامية أمامها خيارات أخرى غير "النمو على نحو غير نظيف ثم تحقيق النظافة في وقت لاحق". ويمكن القيام الآن بالكثير من الأشياء المفيدة: فالهواء والمياه النظيفة وإدارة النفايات الصلبة هي احتياجات أساسية، والعديد من السياسات البيئية تعزز الإنتاجية وتخفف من حدة الفقر. ومن ثم فبينما ينبغي أن تركز البلدان الفقيرة على تلبية الاحتياجات الأساسية وتوسيع الفرص المتاحة للنمو، فإنها بحاجة إلى عدم القيام بذلك بتكلفة تتمثل في تدهور البيئة على نحو غير قابل للاستمرار ولا يمكن معالجته وتحمله. وعلاوة على ذلك، فإن الأداء البيئي لا يتحسن تلقائياً مع تحسن الدخل، ومن ثم فإن هناك حاجة إلى إجراءات سياسة عامة على أية حال. وأخيراً، قد يكون من المستحيل أو المكلف جدا القيام بالتنظيف "لاحقاً"، إما بسبب عدم إمكانية معالجة الأضرار البيئية أو إصلاحها مثل فقدان التنوع البيولوجي، أو لأن "الشرك" الذي سيتم الوقوع فيه سيجعل التحول لاحقاً إلى هياكل غير ضارة بيئياً على نحو أكبر أمراً مكلفاً للغاية.
المستقبل الذي نريده
تعمل السياسات المصممة تصميماً جيداً للنمو الشامل الذي يراعي الاعتبارات البيئية على تحسين خدمات الرعاية الاجتماعية، التي تأخذ في الاعتبار ليس فقط الجيل الحالي ولكن أيضا الأجيال المقبلة. وواضعو السياسات لديهم أيضا قلق طبيعي بشأن المفاضلات والتكاليف المحتملة، فضلا عن الفوائد المشتركة المحتملة، للسياسات التي تراعي الاعتبارات البيئية فيما يتعلق بالنمو وخلق فرص العمل على المدى القريب. وستكون هناك حاجة إلى تحليل دقيق لكل حالة على حدة لوضع الإستراتيجيات المثلى، ولكن هناك شواهد كثيرة على أنه يمكن تقليل التكاليف على المدى القريب من خلال الاستفادة من الأنظمة جيدة التصميم وأدوات السياسات المستندة إلى قوى السوق التي تشجع السبل الأقل تكلفة لحماية البيئة. وعندئذ يمكن أن يوفر النمو الذي يراعي اعتبارات البيئة طريقاً إلى تحقيق تنمية أكثر استدامة توفق بين الحاجة الملحة لتحقيق نمو مستدام مع ضرورة تجنب الوقوع في شرك أنماط النمو غير المستدام والأضرار البيئية التي لا يمكن معالجتها. والنمو الذي يراعي اعتبارات البيئة لا يعوق تحقيق النمو، حيث أنه يمثل بدلاً من ذلك تغييرا في كيفية إدارتنا للاقتصادات كي تعكس تصوراً أوسع نطاقاً لما يشكل النمو المستدام والفاعل.
وتدعم القدرة والإرادة اللازمة لتحديد قيمة لرأس المال الطبيعي عملية التحول إلى النمو الأكثر مراعاة لاعتبارات البيئة. وتمثل الأصول البيئية- المياه والأراضي والهواء والنظم الإيكولوجية والخدمات التي تقدمها - نسبة كبيرة من ثروة أي بلد من البلدان. وتماما مثل رأس المال المادي والبشري، فإن رأس المال الطبيعي يحتاج إلى الاستثمار والصيانة والإدارة الرشيدة إذا أريد له أن يكون مثمراً ويساهم بشكل كامل في تحقيق الازدهار والرخاء. ولقياس التقدم المحرز بدقة نحو تحقيق النمو الأكثر مراعاة لاعتبارات البيئة، ستجد البلدان أنه من المفيد أن تطبق نظاما شاملا لحساب قيمة الثروة وتحديد قيمة النظم الإيكولوجية إلى جانب القياسات التقليدية بشكل أكبر مثل إجمالي الناتج المحلي.
والأهم أنه لا يوجد نموذج موحد للنمو الذي يراعي اعتبارات البيئة. فتختلف إستراتيجيات النمو الذي يراعي اعتبارات البيئة باختلاف البلدان، بما يعكس الأفضليات المحلية وظروف كل بلد من البلدان. ويتعين أخذ أو استيراد أي مجموعة من مجموعات "أفضل الممارسات" في هذا الصدد بعناية. ومع ذلك، فإن جميع البلدان، الغنية منها والفقيرة، أمامها فرص متاحة لجعل نموها أكثر شمولاً وأكثر مراعاة لاعتبارات البيئة دون إبطاء في تحقيق ذلك.
كيفية تحقيق ذلك
يتطلب تحقيق النمو الذي يراعي اعتبارات البيئة تطبيق سياسات تكون بطبيعتها جيدة لتحقيق النمو بشكل عام، وكذلك للحفاظ على البيئة، مثل إصلاح نظم الدعم المقدم لمنتجات الطاقة أو الحواجز التجارية التي تحمي القطاعات شديدة التلوث. وينطوي ذلك على إصلاحات صعبة سياسيا في أنماط التسعير والتنظيم والاستثمار العام، كما يتطلب إجراء تغييرات معقدة في السلوكيات والأعراف الاجتماعية. والأهم من ذلك هو أن النمو الذي يراعي اعتبارات البيئة يتطلب معرفة متى يتم اللجوء إلى الإجراءات والوسائل السياسية المناسبة وليس الإجراءات الأمثل اقتصاديا.
ويحدد النمو الشامل الذي يراعي اعتبارات البيئة إستراتيجية ذات ثلاثة أوجه لمواصلة النمو الأكثر مراعاة لاعتبارات البيئة:
الشق الأول – وضع إستراتيجيات قومية للنمو الشامل الذي يراعي اعتبارات البيئة وفقا لظروف كل بلد، مع التركيز على تعظيم الفوائد المحلية والفورية وتجنب الوقوع في شرك الحلول غير المستدامة. وتختلف الحلول المثلى من بلد إلى آخر بدرجات متفاوتة وفقا للقدرات المؤسسية والشفافية والمساءلة وقدرات المجتمع المدني.
الشق الثاني- تشجيع اتخاذ قرارات تتسم بالكفاءة والاستدامة من قبل واضعي السياسات والمستهلكين والقطاع الخاص. ومن المهم اللجوء إلى فرض غرامات على الملوثين وغير ذلك من الأدوات المستندة إلى الأسواق لأنها تساعد في تعزيز الكفاءة وحفز الابتكار. وستكون هناك حاجة إلى أساليب تكميلية لدفع الأفراد تجاه تبني سلوكيات أفضل وإطلاق العنان لقوة القطاع الخاص. والأمر الحاسم هو أنه في حين أننا لا نزال بعيدين عن التسعير الدقيق لخدمات النظم الإيكولوجية، فإننا يجب أن ندرك بوضوح أنها ذات قيمة. ويجب إدراج الأصول الطبيعية بشكل منهجي في الحسابات القومية. وقد اعتمدت اللجنة الإحصائية التابعة للأمم المتحدة نظام المحاسبة البيئية والاقتصادية كمعيار دولي في فبراير/شباط 2012، وهو يقدم منهجية وطريقة متفق عليها على نطاق واسع. وإهمال رأس المال الطبيعي، مثل إهمال رأس المال البشري والمادي، ما هو إلا سوء إدارة للاقتصاد وأمراً مضراً للنمو.
الشق الثالث – الوفاء مقدما باحتياجات رأس المال جنبا إلى جنب مع توفير أدوات تمويلية مبتكرة. ونظراً لقلة موارد المالية العامة، يتعين على الحكومات والمؤسسات المالية متعددة الأطراف العمل على وجه السرعة لزيادة دور القطاع الخاص في الاستثمار الذي يراعي اعتبارات البيئة. وتمثل الشراكات بين القطاعين العام والخاص عنصراً حاسماً لمعالجة الحواجز السوقية أمام الممارسات التجارية والقرارات التي تكون مربحة تجارياً وذات قيمة كبيرة بيئياً و/أو اجتماعيا على السواء.
وفي نهاية المطاف، فإن الكثير مما هو ضروري للنمو الذي يراعي اعتبارات البيئة يكمن في سياسة رشيدة للنمو، تهدف إلى تصحيح الأسعار وإصلاح الأسواق ومعالجة الإخفاقات وأوجه القصور في التنسيق والعوامل الخارجية المتعلقة بالمعرفة، ونقل حقوق الملكية. ولكن سياسات النمو التي تراعي اعتبارات البيئة ليست علاجاً سحرياً للعيوب الهيكلية في اﻻقتصاد: فالتدابير البيئية لا يمكن أن تصحح آثار اختلالات الاقتصاد الكلي، أو أسواق العمل المشوهة أو النظم المالية سيئة التنظيم أو البيئات المعادية للأعمال.
وعلاوة على ذلك، وبينما يمكن تحقيق النمو الأكثر مراعاة لاعتبارات البيئة بتكلفة ميسورة، فإنه لا يمكن تحقيق اقتصاد يراعي اعتبارات البيئة بين عشية وضحاها. وتحقيق تحولات سريعة ينطوي على تباطؤ كبير في معدلات النمو، على الأقل على المدى القصير إلى المدى المتوسط. وعلى العكس من ذلك، فإن تجنب تحول حاد يمثل حافزاً قوياً لبدء العمل الآن.