"الكرامة!".. كانت إحدى الصيحات الرئيسية لحشود 'الربيع العربي'، حيث خرج الآلاف من الشباب إلى الشوارع مطالبين بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية. وكان ارتفاع معدل البطالة أحد الأسباب الرئيسية لسلسلة الاحتجاجات التي أطلقت أحداثا غير مسبوقة للتغيير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع تكشف عمليات التحول المختلفة، لازال السعي من أجل فرص عمل لائقة موضوعاً مركزياً. وتوفر الوظائف سبل العيش، ولكنها تعني أكثر بكثير من مجرد الراتب: فبدون الوظيفة، يمكن أن يفقد الانسان إحساسه بقيمته الذاتية وتحقيق الذات.
وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقط عندما يصبح الانسان قادراً على الانفاق على نفسه (ويتحمل تكاليف الزواج، من بين أمور أخرى) يمكن الاعتراف به كشخص بالغ- وعضو كامل الاحترام في المجتمع. وينعكس المصير العام لكثير من غير القادرين على تحقيق ذلك على مختلف أنحاء المجتمع. وهذا يمكن أن يؤدي إلى إحباط كبير، وكما أثبتت الأحداث، فإنه يشكل أيضاً خطراً على التماسك والأمن الاجتماعي.
وفي نهاية المطاف، فإن الأمر برمته يصب في معنى الكرامة، أو بالأحرى عدم الكرامة. وقد أوضح الربيع العربي ودعوته لتوفير فرص العمل والكرامة هذا الارتباط بشكل صريح. والوظائف في الواقع هي أحد العناصر الأكثر حيوية في تحقيق أهداف الربيع العربي من حيث العدالة الاجتماعية والاقتصادية. فخلق فرص العمل لم يعد مجرد خيار، بل أصبح أولوية وضرورة بالنسبة لمعظم البلدان في المنطقة.
ولازال معدل البطالة في المنطقة والذي بلغ 10 في المائة (2007) هو الأعلى في العالم. وفي الوقت نفسه، فإن القطاع غير الرسمي يشكل 67% من مجموع العمالة (مقارنة بنسبة 61 في المائة في أمريكا اللاتينية و 40 في المائة في أوروبا وآسيا الوسطى). وتنتشر البطالة وعدم النشاط بشكل أكبر في المنطقة من انتشارهما في المناطق الأخرى المتوسطة الدخل. وفي حين أن معدلات البطالة انخفضت من 14.1 في المائة عام 2002 إلى 10 في المائة عام 2007، فإنها تظل الأعلى على مستوى العالم. ويتضح عدم وجود فرص عمل أيضا في المستويات العالية للأعمال في القطاع غير الرسمي.. والوظائف ذات الرواتب العالية أو الرسمية قليلة، والأغلبية الساحقة للعمل في القطاع الخاص منخفضة القيمة المضافة. وبوجه عام، يمكن وصف أسواق العمل في المنطقة بأنها غير فعالة وغير منصفة، وتنحصر في الجانب المنخفض الانتاجية من المعادلة. ويؤكد ارتفاع فروق الأجور وانخفاض الانتقال إلى وظائف ذات نوعية أفضل حقيقة أن رأس المال البشري غير موزع بطريقة تحقق استخدامه بشكل يحقق أكبر انتاجية منه.
إن القدرة على الوصول إلى الوظائف المرغوب فيها تعتمد على ظروف خارجة عن إرادة الفرد أكثر مما تعتمد على الجدارة والاستحقاق ما يؤدي إلى توزيع غير منصف لفرص العمل. وفي حين أن بعض الوظائف الأكثر جذباً توجد في القطاع العام وتوفر عائدات عالية للأفراد، فإنها لا ترتبط بالضرورة بأعلى إنتاجية.
وتسرد الإحصاءات المتعلقة بعمل النساء في المنطقة قصة أكثر درامية. فقد حققت المرأة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خطوات كبيرة في مجال التعليم، وغالباً ما تتخطى الآن عدد الرجال على مستوى التعليم العالي، وقد أظهرت رغبة قوية في العمل. إلا أن انجازاتها لم تتحول إلى مكاسب في مجال العمل. حيث تظل معدلات مشاركة المرأة في قوة العمل بالمنطقة عند نسبة 25 في المائة، وهو أحد أدنى المعدلات في العالم.
ويشير ارتفاع نسبة البطالة بين المتعلمات والفوارق الكبيرة في الأجور بين الجنسين إلى وجود نسبة كبيرة غير مستغلة من المتعلمات اللاتي لديهن استعداد للعمل ولكنهن غير قادرات على العثور على وظائف مناسبة. وتحول مجموعة من العقبات الثقافية والاقتصادية والقانونية دون انتقال المرأة من الدراسة إلى العمل. وتواجه المرأة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل عام قدرة محدودة على الحركة في سوق العمل: فغالباً ما تتركز فرص العمل في مجموعة محدودة جداً من المهن التي يجب أن يكون مكانها بالقرب من منزل المرأة، أو تستطيع المرأة الوصول إليها عن طريق وسائل نقل عام آمنة. ويبدو كما لو أنهن ممنوعات من استخدام نفس نطاق أساليب البحث عن الوظائف مثل الرجال (كالاتصال بأرباب العمل المحتملين أو زيارتهم، إلخ). وعلاوة على ذلك، فإن هناك عدم توافق أكبر بين المهارات التي اكتسبتها المرأة ومتطلبات سوق العمل، مقارنة بالرجال.
ونتيجة لذلك، وإلى جانب معدلات البطالة العالية جداً (تصل إلى 40 في المائة بين الشابات في مصر والأردن) فإن الكثير من النساء في نهاية المطاف يخرجن تماماً من قوة العمل. وهناك حاليا ثلاثة من بين كل أربع نساء في سن العمل لا يعملن، بمعنى أنهن خارج قوة العمل، وهو أدنى معدل مشاركة للمرأة في القوة العاملة من أي منطقة أخرى في العالم. وإذا تمت خدمتهن بشكل أفضل في أسواق العمل، فإن جميع النساء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بغض النظر عن مؤهلاتهن العلمية، ستكون لديهن فرصة أكبر لاستخدام أوقاتهن بشكل يحقق عائد أكبر وإنتاجية أعلى. والخبر السار هو أن العديد من القيود، مثل محدودية قدرة المرأة على الانتقال، يمكن أن تتحسن بشكل إيجابي عن طريق السياسات.
إن هناك مستودعا هائلا للموارد البشرية والمواهب غير المستغلة المستعدة لإطلاق العنان لها. وقد استثمرت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بكثافة في تعليم كل من الرجل والنساء على مدى العقود الماضية. وللاستفادة من هذه الاستثمارات الجارية، من الأهمية بمكان ضمان أن تتفق نوعية وملائمة المهارات التي تم اكتسابها مع احتياجات سوق العمل. وبنفس القدر من الأهمية، يجب توفير مسارات متعددة في مجال التعليم، مدعومة بخيارات "الفرصة الثانية" لمن انتهي بهم المطاف دون الحصول على المهارات اللازمة، وذلك من أجل تطوير قوة عمل منتجة.
ويجب التأكيد على أهمية الجدارة والاستحقاق في مجال الوصول إلى التعليم والتوظيف. وتحتاج سوق العمل التي تتميز بالإشارة بشكل أكبر للجدارة احتياجا أكثر وضوحا لنظم التعليم والتدريب على حد سواء. فعن طريق ذلك يتم خلق طلب على المهارات "الصحيحة" في المجالات "الصحيحة" والحد من عدم التطابق. وبتحسين نوعية وملائمة المهارات، وسد الفجوات المعلوماتية، وإقامة الشراكات مع القطاع الخاص في مجال التدريب، ستكون هناك فرصة أفضل لتوظيف الشباب الذي ستتوفر لديه قدرة أكبر على العمل، مع توفير فرصة أفضل لزيادة العائد من الاستثمار في التعليم.
ويستخدم هذا التقرير، الصادر بعنوان "وظائف من أجل تقاسم الرخاء – حان وقت التحرك في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، الوظائف كوسيلة لربط الديناميكيات المعقدة لعملية خلق الوظائف بتوفير المهارات والبيئة المؤسسية لأسواق العمل. ويذهب التقرير إلى ما هو أبعد من الروابط التقليدية بين فرص العمل والإنتاجية ومستويات المعيشة ليتضمن فهم لكيفية ومدى أهمية كرامة الفرد والتوقعات المنتظرة والمستويات الكثيرة للإقصاء. وعلى نفس المستوى من الأهمية، فإن هذا التقرير يكمل المنظور الاقتصادي بتزويده بتحليل لمعادلة الاقتصاد السياسي، وذلك بغية تحديد آليات تؤدي إلى عملية إصلاح.
وعلى هذا النحو، فإن التقرير له ثلاثة أهداف: أولاً، يسعى إلى توفير وصف متعمق لديناميكيات أسواق العمل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتحليل العوائق التي تحول دون خلق فرص عمل أكثر وأفضل. وثانيأ، يقترح التقرير برنامج عمل متوسط المدى من خيارات السياسات التي يمكن أن تعزز النمو القوي والشامل اللازم للتصدي للتحدي الهيكلي الذي يعوق التوظيف في المنطقة. وثالثا، يهدف التقرير إلى توفير المعلومات وفتح منبر للمناقشة بشأن الوظائف فيما بين مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة، بما يهدف في النهاية إلى المساهمة في وضع رؤية مشتركة للتحديات التي تواجه التشغيل والتوظيف وطريق الإصلاح في المستقبل.
لقد أتاح الربيع العربي فرصاً واسعة لقطع الصلة بالماضي وتبني نموذج تنمية يستفيد منه جميع المواطنين. ويمكن أن تشكل الاستنتاجات والتوصيات الواردة في هذا التقرير أساساً لبرنامج عمل من أجل التغيير. ويحدد التقرير العوائق المحددة التي تحول دون تحقيق نمو شامل وخلق فرص عمل بقيادة القطاع الخاص، ويقدم مجموعة من خيارات السياسات للتغلب عليها. وعلاوة على ذلك، وإدراكاً للحاجة الملحة التي يقتضيها الوضع، واعترافاً بمدى صعوبة التوصل إلى توافق الآراء اللازم لإحداث التغيير، يقترح التقرير سلسلة من الخطوات لبدء هذه العملية. ويوصي بتبني روح الانفتاح الجديدة لإشراك شريحة واسعة من المجتمع. والهدف هو التوصل لفهم مشترك لطبيعة المشكلة والتزام مشترك ببرنامج لحلها. ويقترح التقرير كذلك سبلاً لتعزيز مصداقية عملية الإصلاح من خلال تدخلات قصيرة الأجل، مثل برامج تستهدف تشغيل الشباب واستثمارات في البنية التحتية الأساسية التي تلبي الاحتياجات الفورية وتسفر عن تحقيق نتائج واضحة وملموسة. وتمثل معالجة الوضع الوظيفي على نحو شامل أقل شيء تتيحه بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال هذا الوقت من التغيير.
-----------------------------------------
الرسائل الرئيسية
- - أسواق العمل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تسيء استخدام المواهب البشرية والموارد المتاحة، مما يحد من الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية للبلدان والشعوب في المنطقة.
- - تغيير القواعد من أجل خلق قطاع خاص ديناميكي يستفيد من النطاق الكامل لرأس المال البشري في المنطقة.
- - السماح بتدفق المهارات للوظائف المنتجة بالقطاع الخاص بإعادة تنظيم أوضاع العمالة في القطاع الخاص والقطاع العام على حد سواء، وإعادة النظر في لوائح تنظيم العمل.« خفض العوائق التي تعترض النساء الراغبات في العمل.
- - تمكين الشباب من القدرة على العمل بسد الفجوات المعلوماتية، وتحسين نوعية وملائمة المهارات، وإقامة شراكات مع القطاع الخاص في مجال التدريب.
- - استخدام تدخلات قصيرة الأجل لتلبية الاحتياجات الفورية، في نفس الوقت الذي يتم فيه بناء المصداقية وتوافق الآراء من أجل تحقيق إصلاحات متوسطة الأجل تغيّر قواعد اللعبة.