وأصبحت إنجازات تركيا حاليا مصدر إلهام لواضعي السياسات في العديد من بلدان الأسواق الصاعدة. فخلال العامين الماضيين فقط، وبمساعدة من مجموعة البنك الدولي، زار تركيا نحو 20 وفدا من بلدان دانية وقاصية، كالهند وأوزبكستان وكوسوفو وكينيا وأوكرانيا، لكي يتعرفوا على كيفية إصلاح تركيا لنظام الرعاية الصحية، والتعليم الثانوي، وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي، وإدارة المالية العامة، وطائفة من المجالات الأخرى التي تحسنت في السنوات الأخيرة.
ورغم العديد من التحديات التي مازالت تركيا تواجهها، فإن اهتمام العديد من الزائرين يؤكد على قيمة الاستفادة من الدروس الجديدة للتنمية في الوقت المناسب من بلدان مازالت، مثل تركيا، تمر بمرحلة تحول. وهذا بالضبط هو ما يفعله تقرير جديد صادر عن البنك الدولي. فهو يتحرى المسار الذي قطعته تركيا نحو رفع مستوى الدخل، وزيادة الاندماج دوليا، والاشتمال الاجتماعي. ويقدم التقرير المعنون "التحول التركي: الاندماج والاشتمال والمؤسسات"، نظرة متعددة الزوايا على بلد يمر بمرحلة تحول- ويقدم لواضعي السياسات تحليلا عميقا للدروس المستفادة من عملية التحول الجارية حاليا للحاق بالبلدان مرتفعة الدخل- في الداخل والخارج.
وعن ذلك، يقول مارتن ريزر، المدير القطري المعني بتركيا لدى البنك الدولي والمؤلف الرئيسي للتقرير، "نأمل في أن تثري تركيا الخيارات المطروحة من السياسات أمام بلدان الأسواق الصاعدة الأخرى. وبوضع إنجازات معينة حققتها تركيا بمختلف المجالات في الإطار التاريخي الأوسع نطاقا لارتقائها إلى الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل، فإننا نأمل أيضا في أن يكون التقرير بمثابة مرجع للمناقشات الداخلية للسياسات بشأن التحديات المستقبلية."
ووفقا للتقرير، تبرز ثلاثة من بين العديد من العوامل التي حفزت التقدم الذي أحرزته تركيا. أولا، أدى الانتقال بالتشغيل من الزراعة إلى الصناعة والخدمات إلى زيادة الإنتاجية وساعد على تقليص التفاوت في الدخل بين المناطق. وساعد الجمع بين تحرير التجارة، وتوقيع اتفاق لتوحيد الجمارك مع الاتحاد الأوروبي، وإصلاح قطاع البنوك ولوائح أخرى لتنظيم أنشطة الأعمال، وتسريع عملية الإعمار، على تهيئة الظروف الضرورية لتحفيز نمو الإنتاجية في مختلف أنحاء البلاد. وقد تقلص نصيب الزراعة من الأيدي العاملة في الفترة ما بين 1990 إلى 2009 بنسبة 24 نقطة مئوية بينما زاد نصيب الصناعة منها بنسبة 4.6 في المائة.
ثانيا، تمكنت تركيا، بفضل الإصلاحات الجوهرية للمالية العامة والقطاع العام التي بدأت غداة الأزمة العميقة التي وقعت عام 2001، من الانتقال بالموارد العامة من خدمة الدين إلى خدمة الجمهور. وتم تقليص الفجوة في الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية والبلدية وتحسنت النتائج بدرجة كبيرة. على سبيل المثال، زاد العمر المتوقع عند الولادة في تركيا بواقع 10.6 سنة منذ تسعينيات القرن الماضي، فيما انخفض معدل وفيات الرضع بواقع ستة أضعاف. كما ارتفعت معدلات الالتحاق بالتعليم الثانوي بنحو الضعف بين عامي 1998 و 2012- وذلك من 38 في المائة إلى 67 في المائة على الترتيب. وجعلت هذه التحسينات النمو الاقتصادي أكثر اشتمالا للشرائح الاجتماعية.
وأخيرا، فقد لعب القطاع الخاص دورا رئيسيا أثناء هذا التحول، مدعوما بوفاق سياسي يحابي الحلول المستندة إلى آليات السوق. وقد أفسحت الأزمة السياسية والاقتصادية التي تفجرت بنهاية تسعينيات القرن الماضي الطريق أمام سلسلة من الإصلاحات المؤسسية التي حفزت النمو في القطاع الخاص. وهذا النمو عززته عملية التفاوض للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والتي وفرت هدفا منشودا لهذه الإصلاحات.
وقد ساعدت كل هذه الظروف تركيا على تحقيق نجاح اقتصادي واجتماعي في عدد كبير من المجالات. ومع هذا، فإن كل هذه الأوجه من التقدم لا يمكن ضمان استمرار نجاحها. وبالفعل، يواجه الاقتصاد التركي عددا من التحديات التي ينبغي التصدي لها إذا أراد هذا البلد استكمال حلقات صعوده إلى مصاف البلدان مرتفعة الدخل. وتحتاج مصادر نمو الإنتاجية للتحول من إعادة توزيع العمالة إلى المزيد من الابتكارات وتبني تقنيات جديدة. وسيتطلب ذلك مهارات أفضل وبيئة مواتية للتنافس أمام أنشطة الأعمال لتشجيع أصحاب العمل الحر في تركيا على طرق أبواب جديدة. بيد أن الأهم من كل هذا، أنها تقتضي أن تضع الحكومة الركائز المؤسسية لبلد مرتفع الدخل، ومن بينها سيادة القانون، وإطلاق الحريات واللوائح المستقلة، وإدارة حصيفة وشفافة للقطاع العام وتخضع للمساءلة. ولا تظهر تركيا ضمن البلدان الأربعين الأولى على أي مؤشر يقيس جودة المؤسسات الاقتصادية في البلاد. وبالنسبة لبلد يطمح إلى الالتحاق بقائمة أكبر 10 اقتصادات في العالم، فمن الواضح أن هذا ليس جيدا بالقدر الكافي.
وقد جذبت التحولات التي شهدتها تركيا انتباه العديد من واضعي السياسات في بلدان الأسواق الصاعدة. وبالتصدي للتحديات الباقية واستكمال الانتقال إلى مصاف البلدان مرتفعة الدخل، يتعين على المسئولين الأتراك التأكد من استمرار بلدهم كنموذج قيّم للنجاح تجدر دراسته لسنوات قادمة.