بعد أن تستقر الأوضاع الأمنية تماما، ستواجه ليبيا التحدي المزدوج الذي تشترك فيه بقية بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وهو الحاجة إلى وظائف أكثر احتواءً ومؤسسات مستقرة لتسهيل نمو القطاع الخاص. هذه هي أنواع التحديات التي ستحتاج أي حكومة انتقالية إلى معالجتها سريعا من أجل خلق الفرص، وهي محدودة الآن، لإعادة إدماج الشباب العاطل عن العمل والمقاتلين السابقين في سوق العمل الضعيفة في البلاد. إن هذا أمر بالغ الأهمية لترسيخ السلام والاستقرار.
وتعود تحديات التشغيل وإقامة المؤسسات في ليبيا الى أساس هيكلة الإقتصاد وتغيير المجتمع على مر العقود. ووفقا لتقرير أصدره البنك الدولي عام 2015 بعنوان ديناميكيات سوق العمل في ليبيا: إعادة الإدماج من أجل التعافي، فإن ليبيا لديها ثاني أعلى معدل للبطالة في العالم، 19٪ حتى الفترة 2012-2014، ارتفاعا من 13٪ في عام 2010. ومعدل البطالة بين الشباب الليبي (الفئة العمرية 15-25) أعلى من ذلك بكثير إذ يصل إلى 48٪، كما هو الحال بين النساء، 25٪. ويذكر حوالي 30٪ من الشركات أنها تجد صعوبة في العثور على ليبيين مؤهلين.
إن هدف هذا التقرير هو عرض تقييم لسوق العمل في ليبيا ومناقشة استراتيجية التوظيف الأوسع نطاقا، وذلك باستخدام مسوح القوى العاملة الوطنية وبحوث نوعية متعمقة مع الباحثين عن عمل والشركات في ليبيا خلال عامي 2012 و2014. وحتى في ذلك الوقت، عندما كانت الشركات الليبية تشعر بالتفاؤل نسبيا في عام 2012، حين كانت أسعار النفط لا تزال مرتفعة، كان يجب أن يزيد معدل النمو المتوقع وهو 6٪ للفترة 2012-2014 مرتين لاستيعاب الليبيين الراغبين في دخول سوق العمل.
كان لسنوات الثراء النفطي في ليبيا تأثيرها العميق أيضا على المجتمع الليبي. فقد كان معدل البطالة آخذ في الارتفاع حتى قبل أن تعكس انتفاضة عام 2011 بعض المشاكل الجوهرية. فسكان البلاد البالغ عددهم نحو 6 ملايين نسمة (قبل عام 2011) نشأوا وهم يعتمدون على سخاء الدولة. وكان دعم الغذاء والطاقة والإسكان هائلا بالنسبة للدعم المُتاح في بقية بلدان المنطقة. وقبيل اندلاع الصراع الحالي في منتصف عام 2014، بلغ حجم القوة العاملة حوالي 1.9 مليون شخص، وكانت الغالبية العظمى من العمال في القطاع العام (77٪). ولم يكن يعمل في الزراعة، التي ازدهرت في عهد ما قبل القذافي، سوى 1٪ فقط من القوة العاملة في ليبيا وفي الصناعة (النفط أساسا) أقل من 10٪، والنسبة الباقية تعمل في قطاع الخدمات.
ومع محدودية مهارات العمل لدى المواطنين، كان يتم توظيف غير المواطنين في وظائف تتطلب عمالة ماهرة وكذلك تلك التي لا تتطلب عمالة ماهرة. وكان الأجانب يشكلون ما يقرب من نصف القوة العاملة في ليبيا وعددها 2.6 مليون شخص حتى عام 2011، حين هرب منهم حوالي مليون شخص. إن القصة مختلفة الآن: منذ تراجعت أسعار النفط في أواخر عام 2014، يشهد الاقتصاد الليبي حالة ركود. وأدت الهجمات على حقول النفط إلى انخفاض إنتاج النفط إلى حوالي ربع ما كان عليه.
بشكل عام، ترى الشركات أن دورات أعمالها تستأنف حركتها، وتشعر بالتفاؤل بشأن النمو على المدى القصير والمدى البعيد. وكان هذا التفاؤل هو الحال في كل القطاعات باستثناء التشييد الذي لم يتعاف منذ توقف المشاريع الحكومية الكبيرة. وذكر العديد من الشركات أنها تعيّن موظفين ليبيين، وقام بعضها بتعيين عمالة ليبية بدلا من العمالة الأجنبية. وأعرب العديد من الشركات عن استعدادها لدفع تكلفة التدريب.
وعلى ذلك، ومع إهمال الزراعة وتقييد القطاع الخاص، أين يمكن تهيئة فرص عمل جديدة ؟
يقول التقرير إنه من أجل دعم الاستقرار و تمهيد الطريق للتعافي بعد انتهاء الصراع، فإن التجارة والخدمات والسياحة والتصنيع الزراعي كلها مجالات ممكنة لإيجاد فرص عمل والتدريب أثناء العمل في الشركات ومشاريع ريادة الأعمال. ويوضح أيضا أن المبادرات يمكن أن تبدأ الآن. فالشراكات المبتكرة بين القطاعين العام والخاص آخذة في الانتشار على المستوى المحلي واستمرت في العمل حتى أثناء الصراع الحالي. وفي طرابلس، على سبيل المثال، افتتح المجلس البلدي المحلي ومنظمة غير حكومية مركزا للتوظيف في عام 2014 وبدأ تعيين الشباب في الشركات، وفي أواخر 2015 حشد المستثمرين في منتدى لدعم رواد الأعمال الشباب الراغبين في التوسع.
على خلفية هذه التطورات، يتضمن تقرير البنك ثلاث توصيات رئيسية كي يدرسها صناع السياسة الليبيون، وخاصة الأطراف الفاعلة المحلية، حتى مع استمرار الأزمة:
- إنشاء نظام تعاقد للشراكات بين القطاعين العام والخاص بغرض تعزيز ريادة الأعمال وإيجاد فرص العمل يمكن أن يوفر الحوافز اللازمة لتحفيز خلق فرص عمل في القطاع الخاص. وقد تتحقق فائدة كبيرة من التدريب أثناء العمل، الذي نجح في المكسيك خلال أزمة التوظيف وفي البوسنة والهرسك بعد الحرب عندما كانت هناك حاجة لتوفير فرص عمل لحوالي 300 ألف جندي تم تسريحهم. ويعتبر استهداف الشباب ذوي المهارات المقبولة والمقاتلين السابقين والنساء عنصرا مهما للغاية.
- من وجهة نظر العاملين والشركات في ليبيا على حد سواء، فإن اللوائح التي تفرض عقود عمل أكثر جاذبية من شأنها أن تجعل العمل في القطاع الخاص أكثر جاذبية، الأمر الذي قد يساعد في جذب استثمارات جديدة. كما أن العقود التي تتيح حوافز لتدريب العاملين واستبقائهم وتعمل على تحسين الأمن الاجتماعي للمواطنين وغير المواطنين على السواء قد تساعد المستثمرين على اجتذاب المواهب المطلوبة من القطاع العام.
- إنشاء قاعدة بيانات مجمّعة ونظام معلومات موحد سيمنح القطاع العام وأرباب العمل والباحثين عن عمل على حد سواء ما يحتاجونه من دعم.
وقال التقرير "عندما وجدت ليبيا نفسها فجأة بدون القذافي في أكتوبر/تشرين الأول 2011، كان نظام الشؤون المالية العامة لديها بالكاد يعمل. يجب إنشاء إدارة عامة حديثة، غائبة عن البلاد مدة 40 عاما." وعلى الرغم من أن العمل الحقيقي في الاقتصاد الليبي سيبدأ حين تتحقق المصالحة السياسية الكاملة، يمكن طرح بعض المبادرات الآن للمساعدة في تمهيد الطريق.