بقلم: مارتن فيليب هيغر، ولوكاس فاشولد، وجيسكو هينتشل
سلامة خط الساحل والشواطئ وأهميته في الحفاظ على سبل كسب العيش في منطقة المغرب العربي
تؤدي المناطق الساحلية في المغرب العربي دوراً ضرورياً ليس للحفاظ على التنوع البيولوجي فحسب (حوض البحر الأبيض المتوسط من بين أهم 25 منطقة تنوع بيولوجي معرَّضة للخطر في العالم) ولكن أيضاً لتطوير الاقتصاد الأزرق بغية تحقيق الثروة، وإحداث فرص الشغل، والحفاظ على سبل كسب العيش. وتعيش غالبية السكان في المغرب العربي في المناطق الساحلية أو بالقرب منها، ويعتمد الكثير منهم عليها لكسب عيشهم. على سبيل المثال، ساهم قطاع السياحة والصناعات المرتبطة به بنسبة 14.2% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2018 في تونس، وهو ما وفر فرص شغل لأكثر من مليوني شخص، ونحو 18.6% من إجمالي الناتج المحلي و16.4% من فرص الشغل في المغرب في عام 2017. وتعتمد أيضاً القطاعات الأخرى، مثل مصائد الأسماك، على نحو مباشر أو غير مباشر اعتماداً كبيراً على سلامة المناطق الساحلية والبحرية. وتُعد الوظائف المتاحة في الاقتصاد الأزرق، مثل العمل في مصائد الأسماك والسياحة، بالغة الأهمية للأسر ذات الدخل المنخفض، وقد يؤدي فقدانها إلى سقوط العديد من صائدي الأسماك والعاملين في مجال السياحة في براثن الفقر، على غرار ما حدث بسبب الاضطرابات الناجمة عن تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19). ويُعتبر فقدان الأساس اللازم للعديد من سبل كسب العيش في إطار الاقتصاد الأزرق، وبالتحديد الشواطئ، عملية بطيئة بدأت بالفعل، وأدت في الواقع إلى اختفاء (نصف) الشواطئ، ومن المتوقع أن تتزايد وتيرتها في ظل تغير المناخ.
تآكل المناطق الساحلية في المغرب العربي: الشواهد المادية
يشكل تآكل المناطق الساحلية خطراً كبيراً على سبل كسب العيش للأشخاص الذين يعتمدون على المناطق الساحلية. وفي تقرير صدر مؤخراً، أجرى فريق عمل البنك الدولي تقييماً للحقائق المادية - من حيث مساحات الأراضي المفقودة والمكتسبة - للتغيرات التي طرأت على المناطق الطبيعية الساحلية. ووجد فريق العمل أن الشواطئ في منطقة المغرب العربي تعرضت للتآكل بمعدل 15 سم في المتوسط سنوياً من عام 1984 إلى عام 2016، أي أكثر من ضعف المتوسط العالمي (الذي يبلغ 7 سم)؛ وهو ما لا يفوقه أي معدل آخر سوى سواحل جنوب آسيا (انظر الشكل 1). وداخل المغرب العربي، سجلت تونس أعلى معدلات تآكل المناطق الساحلية، بمتوسط بلغ نحو 70 سم سنوياً، تليها المناطق الساحلية الليبية التي تنحسر بمقدار 28 سم سنوياً في المتوسط. وينحسر الخط الساحلي الرملي في المغرب بمقدار 12 سم سنوياً في المتوسط على الجانب المواجه للمحيط الأطلسي، وبمعدل 14 سم على ساحل البحر المتوسط، أي ضعف المتوسط العالمي. ومع ارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة تواتر الظواهر المناخية بالغة الشدة، من المتوقع أن تتفاقم ضغوط تآكل المناطق الساحلية في المستقبل. ومن دون اتخاذ تدابير للتكيف مع هذا الأمر، فإن تآكل المناطق الساحلية الآخذ في التفاقم، ومخاطر تعرض الأراضي للغمر، وتلوث المناطق الساحلية تمثل جميعها مخاطر كبيرة للمجتمعات المحلية الساحلية وسبل كسب العيش في تلك المناطق.
الشكل 1: المغرب العربي هو ثاني أسرع مناطق العالم تعرضاً لتآكل المناطق الساحلية
صافي تآكل السواحل حسب المناطق، متوسط المعدل من عام 1984 إلى عام 2016
ملاحظة: تشير البلدان باللون البرتقالي إلى مجموعات البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
المصدر: استناداً إلى لويجيندجيك وآخرين (2018).
ما الأسباب التي تؤدي إلى تآكل المناطق الساحلية؟
السواحل بطبيعتها في حالة تغير مستمر، حيث تتراكم بعض الأجزاء (تكتسب أراضٍ)، في حين تتآكل أجزاء أخرى (تفقد أراضٍ). ومع ذلك، قد تكون للأنشطة البشرية مثل أنشطة التعدين لاستخراج الرمال، أو تطوير البنية التحتية في المناطق الساحلية، أو بناء السدود على الأنهار الداخلية تأثيرات كبيرة على هذه الأنماط الطبيعية على مستويات متعددة، على النحو الموضح في الشكل 2. وفي شمال أفريقيا، تُعد الضغوط البشرية هي العوامل الرئيسية فيما تتعرض له المناطق الساحلية من تآكل.
الشكل 2: تآكل المناطق الساحلية يتأثر بأفعال البشروكذلك بالخطر الذي يلوح في الأفق بسبب تغير المناخ
المصدر: جياردينو وآخرون.(2018).
من الملاحظ أن تآكل المناطق الساحلية ظاهرة غير متجانسة على طول السواحل. وقد دخل فريق عمل البنك في شراكة مع المركز الوطني لعلوم المحيطات ووكالة الفضاء الأوروبية من أجل فهم هذه الظاهرة على نحو مفصل. وتمخض هذا التعاون عن مجموعة بيانات بالغة الدقة تتيح إمكانية اكتشاف المناطق الساحلية المعرضة لخطر التآكل. ويوضح الشكل 3 أدناه النتائج الخاصة بخط الساحل المغربي على البحر المتوسط، موضحاً إلى أي مدى تعرضت بعض المناطق للتآكل بسرعة كبيرة، بواقع بضعة أمتار سنوياً، في حين لم يطرأ تغير كبير على مناطق أخرى، واكتسبت مناطق أخرى بعض الأراضي.
الشكل 3: تغيرات الخط الساحلي على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط في المغرب
البؤر الساخنة المعرضة لخطر تآكل السواحل
الشكل 4: تآكل المناطق الساحلية في مدينة الحمامات، تونس
ملاحظة: يظهر اللون البرتقالي الشاطئ في عام 2019؛ ويظهر اللون الأخضر الفاتح الشاطئ في عام 2006.
تآكل المناطق الساحلية في المغرب العربي: الشواهد الاقتصادية والاجتماعية
أجرى فريق العمل التابع للبنك أيضاً تقييماً للتكاليف الاقتصادية المرتبطة بتآكل المناطق الساحلية في المغرب العربي. ووجد الفريق أن التكاليف السنوية لفقد الأراضي وأصول البنية التحتية تعادل نحو 2.8% من إجمالي الناتج المحلي في تونس، و0.7% في ليبيا، و0.4% في المغرب، و0.2% في الجزائر. ويُعزى الدمار الكبير الذي يلحق بهذه الأصول إلى العديد من العوامل، بما في ذلك معدلات التآكل، ودرجة التوسع الحضري في المناطق الساحلية، وأسعار الأراضي. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه التكاليف منخفضة لأنها لا تتضمن قيماً أخرى مثل الإيرادات المفقودة من السياحة. وقد تكون لتقلص الشواطئ عواقب وخيمة على الاقتصاد الأزرق في بلدان المنطقة حيث تلعب السياحة دوراً رئيسياً. وتشير النتائج المستقاة من بلدان غرب أفريقيا إلى أن هذه التكاليف غير المباشرة تبلغ سنوياً نحو 45% من التكاليف المباشرة.
وتعمل نسبة كبيرة من القوى العاملة في الاقتصاد الأزرق، كما هو الحال في قطاعي صيد الأسماك والسياحة، في الاقتصاد غير الرسمي، وبذلك لا تتوفّر لها خدمات شبكات الأمان الاجتماعي، وبالتالي تصبح عرضة إلى حد كبير لخسائر الدخل الناجمة عن تآكل المناطق الساحلية. في المغرب، على سبيل المثال، يعمل نحو 700 ألف شخص في أنشطة صيد الأسماك وتصنيعها، كثير منهم في الاقتصاد غير الرسمي. ويغلب الطابع الرسمي على قطاع السياحة إلى حد كبير، وإن كان لا يخلو من العمالة غير الرسمية. وفي تونس، يشكل الاقتصاد غير الرسمي ما بين 30% إلى 40% من إجمالي الناتج المحلي، حيث يعمل العديد من العمال، وخاصة الشباب، في قطاع السياحة. ويؤدي تآكل المناطق الساحلية، الذي يحدث ببطء ولكن باستمرار، إلى تراجع جزء كبير من عملهم، ومن ثم يزيد من تعرضهم للخطر.
تبني سياسات بعينها لمواجهة تآكل المناطق الساحلية
بفضل تبني بلدان المغرب العربي نموذج التنمية الخضراء والقادرة على الصمود والشاملة للجميع، فإن إدارة المناطق الساحلية على نحو مستدام تُعد أمراً بالغ الأهمية. والحقيقة أن بعض العوامل المسببة لتآكل المناطق الساحلية، مثل العوامل التي يسببها تغير المناخ، تقع خارج دائرة السيطرة المباشرة لبلدان المغرب العربي. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال هناك خطوات يمكن اتخاذها. أولاً وقبل كل شيء، تتطلب مكافحة تآكل المناطق الساحلية وإدارة التنمية الساحلية إلقاء نظرة شاملة على التغيرات التي تطرأ على الأماكن الطبيعية الساحلية وإشراك الأطراف المعنية المختلفة التي تبدى اهتماماً بتطويرها على نحو أكبر. ويتطلب هذا التحدي تنفيذ مخططات الإدارة المتكاملة والمندمجة للمناطق الساحلية. وقد شهد شمال المغرب في الآونة الأخيرة إطلاق أحد مخططات الإدارة المتكاملة والمندمجة للمناطق الساحلية، وهي المخطط الجهوي لإدارة المناطق الساحلية في جهة الرباط سلا القنيطرة، بدعم من البنك الدولي والحكومة الإيطالية. ويمكن أن تتضمن مثل هذه المخططات أيضاً حوافز ضريبية، كما هو الحال في فرنسا على سبيل المثال، حيث يُعاد توزيع إيرادات الضريبة على أعمال البناء في المناطق الساحلية على السلطات المحلية من أجل دعم السياسات الخاصة بالأراضي التي تسهم في الحفاظ على المناطق الساحلية.
بالإضافة إلى ذلك، توجد تدابير هندسية ملموسة يمكن بواسطتها مكافحة تآكل المناطق الساحلية في إطار مخططات الإدارة المتكاملة والمندمجة للمناطق الساحلية. ويجب أن ينصب التركيز على الحلول المستندة إلى اعتبارات الطبيعة، التي لا تزيد من قدرة الأصول في المناطق الساحلية على الصمود فحسب، بل أيضاً تنشط النظم البيئية المهمة في الوقت نفسه. وتشمل هذه الحلول تثبيت الكثبان الرملية بواسطة غطاء نباتي، وزراعة الأعشاب البحرية، أو إعادة تأهيل الشعاب المرجانية. بالإضافة إلى ذلك، فإن ما يطلق عليه التدابير "اللينة"، مثل إصلاح الشواطئ أو استخدام مصدات الرياح لمنع تراكم الرمال، تُعد أيضاً خيارات قابلة للتطبيق. وقد نفذت تونس العديد من تلك التدابير لمواجهة تآكل المناطق الساحلية، بما في ذلك إقامة أسوار من خشب الصنوبر تمتد أكثر من أربعة كيلومترات لتثبيت الكثبان الرملية. من جهة أخرى، يُعد حظر التعدين غير القانوني للرمال، والتنفيذ الفعال لهذا الحظر أمرين مهمين لدعم الجهود المبذولة لتثبيت الكثبان الرملية وتجميعها. وبالمثل، فإن إزالة السدود القائمة أو إعادة تأهيلها لإتاحة إمكانية تحسين نقل الرواسب أمر فعال في الحد من تآكل المناطق الساحلية في اتجاه المصب.
يؤدي تآكل المناطق الساحلية إلى تكاليف باهظة لتنمية الاقتصاد الأزرق في المغرب العربي. ومن الأرجح أن تزداد هذه التكاليف في المستقبل، إذ ستتفاقم بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر، والتعرض لمزيد من الأحوال المناخية بالغة الشدة. وفي المستقبل، يجب على الحكومات في المغرب العربي تدعيم تأهبها لمواجهة الآثار السلبية لتآكل المناطق الساحلية. ويشمل هذا الأمر إطلاق مخططات الإدارة المتكاملة المندمجة للمناطق الساحلية ودفعها قدماً، بالإضافة إلى إعادة توجيه البنية التحتية الوقائية نحو الحلول المستندة إلى اعتبارات الطبيعة. وسيقدم تقرير يصدر قريباً تحت عنوان "سماوات صافية، وبحار نقية" توصيات حول كيفية التعامل مع استمرار تراجع المناطق الساحلية في سياق إقليمي أوسع نطاقاً.