بقلم: سوميك لال و سامح وهبة
البنك الدولي[1]
رحلة إلى التنمية الاقتصادية
أكثر من 100 عام، ربط الخط رقم 7 في مترو أنفاق مدينة نيويورك جاكسون هايتس وإلمهورست وكورونا في كوينز، وهي أحياء تقطنها الطبقة المتوسطة، بوسط مانهاتن وويست سايد التي تتسم بالثراء. في الأوقات العادية، ينقل قطار هذا الخط 500 ألف شخص للعمل يومياً في سوق العمل الكبير والمتنوع في نيويورك. وتربط الرحلة، التي تستغرق 24 دقيقة من جادة روزفلت شارع 74 في جاكسون هايتس إلى تايمز سكوير، بين أحياء يبلغ الفارق فيما بينها في متوسط الدخل السنوي 78 ألف دولار. ولهذا، تُعد هذه رحلة إلى التنمية الاقتصادية.
لقد أدت جائحة فيروس كورونا إلى توقُّف المدينة منذ مارس/آذار مع صدور أوامر بالبقاء في المنزل في ظل ارتفاع معدلات العدوى والوفيات. وتركز قدر كبير من الاهتمام على مخاطر الكثافة داخل مدينة نيويورك، في ظل اصطفاف المرضى بأعداد كبيرة خارج مستشفى إلمهورست المكتظة بالحالات المصابة بهذا الفيروس في مشاهد ترسخت في أذهان الملايين حول العالم. وقد هيمنت مخاطر الكثافة على النقاش الجماهيري الدائر والحوار المتعلق بالسياسات بشأن فيروس كورونا في الوقت الذي تعمل فيه المدن بمختلف بلدان العالم جاهدة للسيطرة على منحنى انتقال العدوى والحد منها.
يمر الخط 7 فوق جاكسون هايتس، وهو حي صاخب ومزدحم يقطنه المهاجرون ويشتهر بمحلات الساري وأكلات ساموسا تشات التي تذكرنا بكارول باغ في نيودلهي، والذي يُعد حالياً الحي الأكثر تضرراً (انظر الخريطة 1أ) من فيروس كورونا. ويرتفع معدل الإصابة بهذا الفيروس بحيث يبلغ 4125 حالة إصابة بين كل 100 ألف من السكان في هذه المنطقة ذات الرمز البريدي 11368.[1] وفي الجانب الآخر لهذا الخط، أي في تشيلسي الأكثر ثراءً التي رمزها البريدي 10011، تقل حالات الإصابة كثيرا إذ تبلغ 925 حالة بين كل 100 ألف من السكان. ورغم أن هذه الصورة ربما تكون متوقعة، وهي أن الأحياء كثيفة السكان تكون الأكثر عرضة لخطر تفشي العدوى، فإن الشواهد تدلنا على شيء مختلف تماماً.
إن أحياء ويست كوينز ليست الأكثر كثافة في مدينة نيويورك (الخريطة 1ب). إذ يبلغ معدل الكثافة في ويست كوينز 12584 شخصاً لكل كم مربع، فيما يصل هذا المعدل في تشيلسي في الجانب الآخر من الخط 7 إلى 30923 شخصاً لكل كم مربع. ولا يزال معدل الكثافة في أبر إيست سايد بمانهاتن أعلى إذ يتجاوز 58 ألف شخص لكل كم مربع. ولا يوجد تلازم بين الكثافة والإصابة على امتداد هذا الخط. كما أنهما غير متلازمتين في مختلف أنحاء مدينة نيويورك وضواحيها.
إن ما يُحدث هذا الفارق هو مستوى الدخل بالأحياء والخصائص المرتبطة، ذلك لأنهما يؤثران في مدى فاعلية الاستثمارات التكميلية في الهياكل (أي المساكن) والبنية التحتية والمرافق في تحويل الأماكن من مزدحمة إلى كثيفة وصالحة للعيش بها. ففي مركز المدينة الاقتصادي، تكون قيمة الأراضي أعلى في تشيلسي، وتحفِّز كفاءة التخطيط ولوائح تطوير الأراضي المطوِّرين على بناء جميع الهياكل المرتفعة المطلوبة وتوفير مساحات مبنية كبيرة (انظر الخريطة 2).
الخرائط 1 أ-ج: معدلات الإصابة بفيروس كورونا والكثافة ومستويات الدخل في مدينة نيويورك |
حالات الإصابة بفيروس كورونا من بوابة بيانات إدارة الصحة في مدينة نيويورك (https://github.com/nychealth/coronavirus-data). ويتم حساب الكثافة بناءً على عدد السكان (مسح المجتمع الأمريكي لعام 2018) ومساحات البناء الحضري (الخريطة العالمية للتجمعات السكانية لعام 2015). |
الخريطة 2: ارتفاعات المباني على طول الخط 7 في مترو أنفاق مدينة نيويورك |
مصدر البيانات: مركز الفضاء الألماني.
في الأحياء الأقل دخلاً، لا يجد المطوِّرون ما يحفِّزهم على زيادة المساحات المبنية أو المطالبة بإجراء تحسينات إضافية للبنية التحتية. ففي مدينة نيويورك على وجه الخصوص، يعيش السكان في مساكن أضيق تضم في الغالب أُسراً من أجيال متعددة ويعملون في وظائف تتطلب احتكاكاً مباشراً. ويزيد خطر العدوى بسبب افتقار الأحياء إلى الهياكل المادية والمرافق التي تعزز إمكانية العيش في تلك الأحياء التي لا يجد سكانها خياراً سوى الخروج كل يوم في طلب العمل أو الخدمات. ويُفهم من ذلك: أن الجغرافيا الاقتصادية، وليست المادية، هي التي تحدد مدى التعرُّض لخطر العدوى. والقول بخلاف ذلك هو خرافة.
الشكل 1: عدم وجود تلازم بين الإصابة بفيروس كورونا والكثافة في مختلف أنحاء مدينة نيويورك؛ ووجود ارتباط بين مستويات الدخل والكثافة
حالات الإصابة بفيروس كورونا من بوابة بيانات إدارة الصحة في مدينة نيويورك (https://github.com/nychealth/coronavirus-data). يتم حساب الكثافة بناءً على عدد السكان (مسح المجتمع الأمريكي لعام 2018) ومساحات البناء الحضري (الخريطة العالمية للتجمعات السكانية لعام 2015). |
الاستهداف على أساس جغرافي يمكن أن يساعد المدن النامية على إنقاذ الأرواح وحماية الفئات الأولى بالرعاية أثناء تفشي الجائحة
كما هو الحال في نيويورك، كان هناك ارتباط بين الفروق شديدة الوضوح في الجغرافيا الاقتصادية وحالات الإصابة بفيروس كورونا في مختلف بلدان العالم. وتشهد المدن النامية، مثل القاهرة ومومباي ومانيلا ونيروبي، فرض تدابير للإغلاق واسعة النطاق تم النجاح في تطبيقها وإنفاذها بدرجات متفاوتة، وذلك لاحتواء تفشي فيروس كورونا ومساعدة الأنظمة الصحية على التصدي له. وتمثل الجغرافيا الاقتصادية أحد المخاوف الرئيسية: تعيش نسبة كبيرة من سكان المدن في أفريقيا وآسيا في أحياء فقيرة ومناطق عشوائية حيث يمكن أن يؤدي ضيق الأحوال المعيشية ونقص الخدمات العامة، لاسيما المياه والصرف الصحي، إلى تفاقم العدوى. وفي دار السلام، يعيش 28% من السكان بواقع ثلاثة أفراد على الأقل في الغرفة الواحدة، ويسود التكدُّس والازدحام في 50% من أبيدجان. ويعاني السكان من غياب المساحات المفتوحة ونقص البنية التحتية ويلجأون إلى استخدام الصنابير والمراحيض المشتركة، حيث يُتاح مرفق عمومي لكل مائتي شخص في أحوال كثيرة. وفي جنوب أفريقيا، لا تتجاوز نسبة مَن يحصلون على المياه داخل المنازل 44% من السكان، ولا يُتاح إلا لما يمثل 61% منهم استخدام المراحيض المزوَّدة بسيفونات. ومن المُلِّح إنقاذ الأرواح وحماية سبل كسب الرزق للفقراء والأشخاص الأولى بالرعاية الذين تعيش نسبة كبيرة منهم في أحياء فقيرة ومناطق عشوائية. وحتى في ظل الإغلاق، فبالنظر إلى محدودية المساحات المبنية والحاجة إلى التركز حول المرافق العامة مثل المراحيض والصنابير العمومية، لا يستطيع السكان في ظل هذه الأوضاع الحفاظ على مسافات التباعد الجسدي الآمنة.
وللتصدي لهذه الأزمة الناشئة في المدن النامية، طورنا في البنك الدولي منهجية يمكن أن تساعد رؤساء المدن في توجيه الموارد الطبية والموارد الحيوية الأخرى إلى "البؤر" المحتملة، وهي الأماكن الأكثر تعرُّضاً للضرر وخطر العدوى. ونطبِّق منظور الجغرافيا الاقتصادية حيث نراعي حجم الاستثمارات في بناء الهياكل، ومدى توافر الخدمات العامة، واحتمالات انتقال العدوى.
وطوَّرنا هذه المنهجية في أبريل/نيسان 2020 بهدف تسريع تعميمها استناداً إلى ثلاث مجموعات بيانات مستقاة من مصادر عالمية والتي تُظهر معدلات الكثافة السكانية، والمساحات المبنية المتاحة، ومدى إتاحة الخدمات الأساسية مثل الصنابير والمراحيض.[1] وترشدنا هذه المجموعات الثلاث مجتمعة إلى معرفة أين وكيف يعيش السكان. وتأتي البيانات الخاصة بالمناطق التي يعيش بها السكان من وورلد بوب وفيسبوك، فيما يتم الحصول على البيانات المتعلقة بالخدمات الأساسية من خلال أوبن ستريت ماب. وتتوفَّر بيانات الكثافة والمساحات المبنية لشبكات أبعادها 100م × 100م، مما يعطينا معلومات دقيقة على مستوى الأحياء الفرعية. وعقدنا أيضا شراكة مع مركز الفضاء الألماني لاستخدام منتجه المبتكر ثلاثي الأبعاد، وهو الخريطة العالمية للتجمعات السكانية، الذي يقدِّم معلومات عن ارتفاع المباني مما يتيح إمكانية تقدير مساحة الطوابق في مبنى معيَّن.
وكما نرى على امتداد خط المترو 7 في نيويورك، من الممكن العيش في المناطق عالية الكثافة عند توفُّر مساحة مبنية كافية، لكن نقص هذه المساحة يجعل حتى المناطق متوسطة الكثافة مزدحمة وغير صالحة للعيش بها. وفي مومباي، تواجه الأحياء الفقيرة في دهارافي تحدياً ثلاثياً يتمثل في الكثافة السكانية المرتفعة للغاية، وشدة محدودية المساحات المبنية، وقلة البنية التحتية والمساحات العامة والمرافق. وبالتالي، من المُحيِّر التفكير في الحد من خطر العدوى في ظل تكدُّس 68400 شخص على مساحة من الأرض لا تتعدى 1 كم مربع مع عدم وجود صنابير أو مراحيض في المنازل. وتتوقع منهجيتنا الخاصة بتحديد البؤر الساخنة أن هناك 5.2 ملايين شخص في مومباي معرَّضين لخطر الإصابة حتى مع تطبيق تدابير الإغلاق. ويوضِّح الشكل 2 مناطق الاحتواء في مومباي حتى 9 مايو/أيار بالإضافة إلى البؤر المتوقعة. وتُحدد مناطق الاحتواء بناءً على عدد الحالات النشطة واتخاذ تدابير صارمة لمنع العدوى. ويقع أكثر من 30% من المناطق الحالية ضمن البؤر المتوقعة، مع وجود تطابق كبير في أحياء دهارافي المزدحمة. ومن المرجَّح أن يؤدي توسيع نطاق إجراء الفحوصات في العديد من المدن النامية، لاسيما في الأحياء المحرومة، إلى تحسين معدلات التطابق وتوقُّع نسب الإصابة بقدر أكبر من الدقة.
[1] رغم استخدامنا بيانات عالمية، فإننا بدأنا نعمل مع المنظمات المجتمعية من خلال الحملة العالمية "اعرف مدينتك" لمنظمة سكان الأحياء الفقيرة الدولية، ومنظمة المدن والحكومات المحلية المتحدة في إفريقيا، وتحالف المدن للتحقق من صحة تحديد "البؤر" وتحسين دقة التنبؤ بها.
الشكل 2: الإصابات بفيروس كورونا في الأحياء المزدحمة والتي تعاني من نقص الخدمات في مومباي
وقد حددنا بؤراً في 15 مدينة نامية لدعم الجهود التي تقودها المدن للحد من العدوى وحماية الفئات الأولى بالرعاية. ونعتزم توسيع هذا النطاق ليشمل 30 مدينة أخرى.
يوضِّح الشكل 3 أن 25% من سكان القاهرة معرَّضون لخطر الإصابة حتى مع وضع حدود للتفاعل الاجتماعي. وفي دار السلام، هناك 74% من السكان معرَّضون للخطر. ويمكن لهذه التقييمات الخاصة بالبؤر أن تكون مفيدة لرؤساء المدن الذين يقودون جهود الاستجابة المبكرة.
وقد ركَّزت العديد من الاستجابات التي تقودها المدن على مجالين: توفير الخدمات الأساسية التي تشمل المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية والتغذية، وتحسين التوعية بمخاطر فيروس كورونا وإستراتيجيات التكيُّف. وتقوم جاكرتا بتوفير حاويات مياه عامة منخفضة التكلفة وموزِّعات للصابون في المناطق العشوائية في إطار برنامج للتوعية المجتمعية. وفي مونروفيا بليبريا، يدعم تحالف المدن أنشطة للتواصل في المناطق العشوائية من أجل زيادة التوعية بتدابير النظافة الصحية الأساسية وإدارة النفايات. فيما توفِّر كيغالي، عاصمة رواندا، مغاسل متنقلة لغسل اليدين في محطات الحافلات والمطاعم والبنوك والمحلات. وتم تنفيذ تدابير مماثلة في العديد من المدن حول العالم.
تُظهر أنشطة عملنا المستمرة مع المدن فاعلية نهج تحديد البؤر. ففي مصر، أدت خرائط البؤر إلى أن تقوم اللجنة الوزارية العليا الخاصة بإدارة فيروس كورونا بمناقشة إعداد نهج لإدارة المخاطر في العاصمة القاهرة يراعي التفاوت المكاني. وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، تستفيد كينشاسا من التنبؤ بالبؤر في وضع مؤشر للتعرُّض للخطر يتيح توجيه التحويلات النقدية الطارئة مكانياً من خلال الخطة الحكومية متعددة القطاعات للتصدي لفيروس كورونا. وفي الفلبين، تساعد هذه البؤر مسؤولي مدينة مانيلا على تحديد الأفكار بشأن الخدمات الأشد احتياجاً إلى الدعم الطارئ مثل توفير المياه النظيفة.
الشكل 3: التنبؤ ببؤر تفشي فيروس كورونا لمساعدة المدن على إنقاذ الأرواح وحماية الفئات الأولى بالرعاية
بشكل أعم، هناك ارتباط قوي بين الفقر وسوء الأوضاع المعيشية كما في الأحياء الفقيرة والمناطق العشوائية في مدن البلدان النامية. وفي البلدان والمناطق التي لا تتوفر فيها سجلات كاملة للأسر المعيشية الفقيرة والأولى بالرعاية ولا يمكن فيها تطبيق نُهج الاستهداف من خلال اختبارات القدرة المالية، فإن الاستهداف الجغرافي باستخدام هذه البؤر يمكن أن يوفر بديلاً موثوقاً به ويساعد المدن في توجيه الجهود الطارئة نحو الفئات الأولى بالرعاية.
إعادة توزيع الكثافة للتعافي بشكل أفضل
لقد سلَّطت جائحة فيروس كورونا الضوء على التفاوتات الاجتماعية والمكانية داخل المدن بشكل غير مسبوق. وتحمَّلت الأحياء الضيقة والمزدحمة التي تقطنها الطبقة العاملة والفقيرة، مثل معظم أحياء كوينز في نيويورك أو دهارافي في مومباي أو مساكن العمال المهاجرين في المدن الأخرى، عبئاً كبيراً من الإصابات وفقدان سبل كسب الرزق. ومع خروج البلدان من أزمة هذه الجائحة، هناك حاجة ملحة إلى مساعدة المدن في إعادة تشكيل مناطق الكثافة الاقتصادية والعمل على أن يكون النسيج الحضري شاملاً لجميع فئات المجتمع ومستداماً من الناحية البيئية.
وفيما يلي خمس خطوات عملية يمكن أن يتخذها رؤساء المدن.
1. تخطيط الفضاء العام وتوفيره وحمايته: من المهم للغاية إعادة النظر في حجم الفضاء العام وتصميمه وتوزيعه المكاني ويشمل ذلك الأرصفة والمتنزهات والمساحات المفتوحة بالإضافة إلى المرافق العامة مثل المكاتب والمراكز المجتمعية. وهذا أمر على جانب كبير من الأهمية في المدن النامية المزدحمة حيث تكون مساحات المنازل محدودة وأحجام الأُسر كبيرة بشكل عام. كما سيساعد على تحسين إمكانية التباعد الاجتماعي والاستجمام وسيتيح فرصاً لتعزيز الاستجابة لمواجهة فيروس كورونا والتعافي من آثاره. فعلى سبيل المثال، يجري استخدام أراضي غوريغاون، وهو متنزه طبيعي في مومباي بالهند، والقرية الرياضية في حيدر أباد كمنشآت مؤقتة للحجر الصحي. وتعتزم أثينا في اليونان تخصيص 50 ألف متر مربع من الفضاء العام لراكبي الدراجات والمشاة، بما في ذلك إنشاء "ممشى ضخم" يمتد لأربعة أميال يربط المواقع الأثرية في هذا المركز التاريخي. وخصصت دبلن في أيرلندا مساحات واسعة من الأراضي للمشاة وراكبي الدراجات لتسهيل التباعد الجسدي في إطار "خطة انتقال مؤقتة" قد يدوم تطبيقها. وفي بوغوتا بكولومبيا، قام مسؤولو المدينة بإنشاء حارات إضافية للدراجات تمتد لمسافة 70 كيلومتراً، فيما تقوم أوكلاند في نيوزيلندا بتقييد حق المركبات في استخدام حرم الطريق لتوسيع عرض الأرصفة لأغراض التباعد الاجتماعي. ولن تؤدي هذه التحوُّلات فقط إلى جعل التنقل في هذه المدن أكثر أماناً في ظل تغيُّر العالم بسبب فيروس كورونا، بل ستحسِّن كذلك إمكانية العيش في الأحياء المزدحمة.
2. تغيير اللوائح لتوفير المزيد من المساحة المبنية: رغم أن الازدحام يزيد الكثافة من خلال تقليل متوسط المساحة المتاحة لكل فرد، فإن الارتفاع يحقق الكثافة الاقتصادية من خلال زيادة الطوابق والمساحة المبنية. ومع ذلك، تضع اللوائح الصارمة المنظِّمة للكثافة حدوداً لارتفاعات المباني وعدد العقارات التي يمكن بناؤها على قطعة من الأرض. ويحُد ذلك دون مبرر من المساحة التي يمكن بناؤها، كما نرى في المناطق المركزية في ساو باولو بالبرازيل ومومباي. ويجب علينا تنظيم المدن إلى مناطق أصغر ذات كثافات متفاوتة، بناءً على الطاقة الاستيعابية للبنية التحتية والطلب، لاسيما في وسائل النقل. وتحتاج الأحياء الحضرية إلى توزيع الكثافة بشكل "معتدل" بحيث لا تكون مرتفعة أو منخفضة جداً، بل مناسبة تماماً. وما هو مناسب تماماً يتغيَّر مع مرور الوقت ويختلف من حي لآخر. ويمكن لهذه الأحياء أن تزيد الكثافة الاقتصادية من خلال التمويل وأدوات الاستحواذ على الأراضي، وهو ما يساعد كذلك في التأثير على قيم الأراضي والطلب عليها. وقد اعتمدت ساو باولو نهجاً مماثلاً عندما طرحت حقوق التطوير للمزايدة.
3. تعبئة التمويل لمشروعات البنية التحتية في المدن لتدعيم قدرة الأجهزة الحكومية المحلية والمجتمع المحلي على تحسين الأوضاع المعيشية في المناطق الفقيرة والأحياء العشوائية: يتمثل أهم الاحتياجات في توفير مياه الشرب وخدمات الصرف الصحي. وتُعد صنابير المياه والمراحيض العمومية من الخدمات الأساسية، لكنها تمثل كذلك بؤراً لانتقال الأمراض بسبب الاحتكاك عن قُرب بين المستخدمين. ولا تزال هناك مخاوف من أن تؤدي هذه المرافق إلى توسيع أوجه التفاوت فيما بين الجنسين. فالنساء اللائي يخرجن في طلب الخدمات العمومية قد يتعرَّضن لمخاطر أكبر تتعلق بالنظافة الصحية أثناء الحيض أو لتهديدات جسدية بعد حلول الليل، كما تتعرَّض الفتيات لخطر ترك التعليم إذا قضين ساعات طويلة في جلب المياه. ولهذا، يتعيَّن توسيع نطاق الإجراءات التدخلية الموجَّهة التي تعزز قدرة الدولة والمجتمع المحلي، إلى جانب زيادة التمويل لمشروعات البنية التحتية والخدمات. ويتعيَّن أيضا عدم الفصل بين التخطيط والتمويل. وعلى سبيل المثال، فبالإضافة إلى الاستثمار في مشروعات البنية التحتية والخدمات بالأحياء، يقوم البرنامج الوطني للارتقاء بأوضاع الأحياء الفقيرة في إندونيسيا بتعزيز مشاركة المواطنين داخل المجتمعات المحلية بهذه الأحياء وتحسين قدرات التخطيط لدى الأجهزة الحكومية المحلية. ولم يؤدِ ذلك إلى تحسين الأوضاع المعيشية فحسب، بل مكَّن تعزيز القدرات على نطاق واسع هذه المجتمعات المحلية من التصدي بقدر أكبر من الفاعلية لهذه الجائحة من خلال عقد مؤتمرات الفيديو عبر الإنترنت، ومراقبة الأوضاع الصحية على مستوى المجتمع المحلي، ووضع بروتوكولات خاصة بأعمال البناء.
4. تأمين حقوق ملكية الأراضي والعقارات: بدون تأمين هذه الحقوق، لن تكون لدى السكان الفقراء، سواء المالكين بوضع اليد أو المقيمين في المناطق العشوائية، حوافز تُذكر لتحسين أوضاع أماكن إيوائهم. ويحد التعرُّض لخطر عمليات الإجلاء أو الهدم من الاستثمارات التي يمكن أن يقوم بها الفقراء في المدن لتحسين ظروفهم المعيشية. وقد ارتبط تقنين حيازة الأراضي والعقارات للمالكين بوضع اليد وسكان المناطق العشوائية بحدوث زيادات في قيم الأراضي والعقارات، وضخ استثمارات كبيرة في ضم أماكن الإيواء، وكذلك تحقيق منافع اجتماعية واقتصادية مثل تحسين نواتج التعليم والصحة للأطفال في أنحاء كثيرة من العالم.
5. السعي بقوة لعدم تلويث البيئة: عندما أدت الإجراءات التدخلية لوقف تفشي هذا الفيروس إلى سحب المركبات من الشوارع وإغلاق المنشآت المسببة للتلوث، استمتع السكان في العديد من مدن البلدان النامية الكبيرة برؤية السماء صافية واستنشاق الهواء النظيف لأول مرة منذ عقود. وفي مانيلا على سبيل المثال، انخفضت انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين بنسبة 65%. ويجعل الهواء النظيف المدن أكثر ملاءمة للعيش بها وأكثر إنتاجية، كما يدعم تنمية رأس المال البشري. والمدن أمامها الآن فرصة فريدة للحفاظ على جودة الهواء مع إعادة تشغيل الاقتصادات. وفي مصر، تخطط الحكومة لتوسيع شبكة مترو أنفاق القاهرة الكبرى لاستيعاب 6 ملايين راكب يومياً بحلول عام 2025، مقابل 3.5 ملايين حالياً. وتعتزم الحكومة أيضا إعطاء منح لأصحاب السيارات الخاصة لمساعدتهم على تحويلها لتعمل بالغاز الطبيعي. ولن يؤدي الهواء النظيف إلى تحسين المرافق المحلية فحسب، بل سيقدِّم كذلك منفعة عالمية مشتركة بخفض كثافة الانبعاثات الكربونية. وإجمالاً، من المهم للغاية ألا تفوِّت الحزم التحفيزية للتصدي لفيروس كورونا هذه الفرصة الفريدة في دفع عجلة الاقتصاد إلى جانب المساهمة في خلق مستقبل أكثر استدامة والحد من آثار تغيُّر المناخ.