استيقظ العالم منذ أيام على الواقع الذي تعيشه بعض البلدان في الشرق الأوسط منذ حوالي أربع سنوات. وعبرت الصورة الأليمة للطفل إيلان،وقد لفظته أمواج البحر على أحد الشواطئ التركية حيث انطفأت أعوامه القليلة، عن المصير المأساوي لملايين اللّاجئين الذين وجدوا في مياه البحر وسيلة للهروب إلى برّ آمنٍ، بعيدٍ عن العنف الوحشي الذي ولّدته الحرب في سوريا. هذه هي أزمة الحضارة والإنسانية.
عندما نشب النزاع في سوريا منذ أكثر من أربع سنوات، بدأ السوريون بالنزوح إلى البلدان المجاورة، وقد لجأ معظم النازحين إلى الأردن ولبنان، البلدان اللذان يعانيان أصلاً من مشاكل اقتصادية، وديمغرافية، واجتماعية، وسياسية. وعلى الرغم من أزماتهما الداخلية، قررت الدولتان فتح جميع الحدود لاستقبال اللاجئين، رغم أنهما لم يوقعا على اتفاقية جنيف لشؤون اللاجئين، إلا أن قرارهما كان إنسانياً لجهة الالتزام ببنود الاتفاقية المذكورة.
لبنان، على سبيل المثال، البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه الـ 4.2 مليون لبناني، استضاف ما يقارب الـ 1.5 مليون لاجئ، أي ما يفوق ربع إجمالي السكان. وهذا أمر غير وارد في أي مكان آخر، حيث أثار القرار الإنساني هذا تحولاً لا رجعة فيه من حيث التوازن الاجتماعي الحسّاس في البلد. وقد خاض الأردن المسار نفسه بكّلِ نخوة ورحابة صدر.
وها نحن نشهد اليوم الاضطراب الحاصل في قارة أوروبا الواسعة والغنية بسبب دخول بعض الآلاف من اللاجئين السوريين إلى أراضيها. أمّا السؤال المطروح اليوم فهو: ما العمل؟
فقد منعت مراحل النزاعات والعنف والعقوبات الدولية البنك الدولي من تفعيل برامجه التنموية في سوريا، لكنه ركز على مساعدة المجتمعات المضيفة للّاجئين السوريين وذلك بهدف الحد من تداعيات الأزمة في سوريا على لبنان والأردن بشكل خاص. ومن هذا المنطلق، بدأت المؤسسة بتطوير أدوات تحليلية لتقييم أثر النزاع في سوريا على هذين البلدين. وقد باشرنا في تنفيذ مشاريع طارئة للتخفيف من الآثار السلبية الناتجة عن الأزمة، بما في ذلك إنشاء آليات للتمويل وللاستجابة السريعة بهدف دعم البلديات في مواجهة الضغوط الإضافية على البنى التحتية. كما حرصنا على مساعدة الحكومات المعنية في تسهيل دخول الأطفال اللاجئين إلى المدارس لمتابعة دراستهم، واستهدفت بعض المشاريع المؤسسات الصحية وذلك لضمان استمرارية تقديم الخدمات، بنفس النوعية، إلى المواطنين واللّاجئين على حد سواء.
إلى ذلك، تم توسيع برامج الحد من الفقر لتتضمن المجتمعات المضيفة للّاجئين السوريين.
كما أكّدنا على أهمية المتابعة مع وكالات الأمم المتحدة والجهات المانحة الأخرى، وذلك لتوحيد الجهود واستكمال العمل الإنساني، ممّا أضاف بعداً جديداً لنهج المجتمع الدولي. وقد توسعت دائرة النقاش لتتضمن المجتمعات المضيفة إلى أجندة الحوار، وذلك إضافةً إلى مخاطبة احتياجات اللّاجئين السوريين والتحديات الصعبة المتزايدة أمامهم وأمام المجتمعات المضيفة. فقد حوّل المجتمع الدولي مساعيه لدعم صمود البيئة الحاضنة للّاجئين واستكمال عملية التنمية على الصعيد المحلي في موازاة المساعدات الإنسانية.
عندما بدأت آلة الحرب بالسيطرة على سوريا، رحّب اللبنانيون كما الأردنيون باللّاجئين وحرصوا على تخفيف آلامهم حتى لو بالقليل ممّا استطاعوا. كان الحسّ التضامني واضحاً في ذلك الحين ولم تشّكل أعداد اللّاجئين المحدودة نسبياً تحدياً مباشراً. لكن سرعان ما تفاقمت وحشية الحرب فتصاعد عدد النازحين بشكل هائل، ممّا أدى إلى مضاعفة التحديات وصعوبة التفاعل بين المجتمعات المضيفة واللّاجئين. وقد أصبح من واجبنا اليوم تركيز رؤيتنا المستقبلية على الوسائل التي يمكن من خلالها المحافظة على التماسك الاجتماعي، وذلك بهدف تعزيز سبل التعايش بين اللّاجئين والمجتمعات المضيفة.
لا يستطيع أحد أن يتنبأ متى سوف تنتهي الأزمة في سوريا، أو متى سيتمكن اللّاجئون من العودة إلى وطنهم، حيث زادت الحرب تعقيداً ودماراً. فقد أظهرت الدراسات والخبرات العالمية أن اللّاجئين الهاربين من النزاعات يمضون تقريباً 17 سنة كمعدل عام في بلد اللجوء قبل العودة إلى ديارهم ، وذلك على مراحل وبأعداد محدودة. كما أن البعض منهم قد لا يترك البلد المضيف أبداً، وقد بدأ هذا الاحتمال يتدحرج بجدِيّة إلى جدول نقاشات صانعي السياسات في لبنان والأردن.
في الأردن، لا يتواجد اللّاجئون في مخيّم الزعتري فقط- المخيم الأكثر شهرةً– بل هم موجودون في كافة أنحاء المملكة. كما أنشأ بعض السوريين أعمالهم الصغيرة الخاصة كمصدر رزق، ممّا يسهل عليهم الاستمرارية من جهة، والمساهمة في تحريك العجلة الاقتصادية من جهة أخرى. ويتكرر المشهد نفسه في لبنان، حيث تتزايد الضغوط على سوق العمل، والخدمات العامة، والسكن. فهل من الجريء القول بأن انخراط اللّاجئين السوريين ضمن النسيج الاقتصادي للبلدين قد يحوّل اللّاجئ من "مسؤولية عامة" إلى "منفعة عامة"؟ ذلك احتمال جدي من وجهة نظر اقتصادية بحتة. لكن علينا النظر أيضاً في اعتبارات أخرى ممّا يزيد المسألة تعقيداً.
ويبقى هذان البلدان تحت وطأة الأعداد الهائلة للاجئين، ممّا قد يخلّ بالتوازن الحسّاس في نسيجهما السياسي والاجتماعي، وقد يهدد بإلغاء ما تم تحقيقه من إنجازات تنموية. لكنهما حتى الآن، لم يحصلا على الدعم الكافي لمواجهة التحديات ورفع المعاناة الإنسانية الناتجة عن وحشية الحرب.
ونستطيع إيجاز الأمر كالتالي: من خلال استضافة اللاجئين، يقدم هذان البلدان إلى المجتمع الدولي منفعة عامة، ولا تقف المنفعة عند هذا الحد، بل نطلب منهما دفع الثمن أيضاً. لذا، أصبح من واجب البنك الدولي والجهات المانحة الأخرى والشركاء في التنمية تحديد وتطوير آليات خلّاقة لدعم البلدان المتوسطة الدخل لمعالجة هذه الأزمات وإدارة ملفاتها التنموية في الوقت عينه.
ما نشاهده بكل رعب ضمن نشرات الأخبار المسائية هو ما يشهده الشرق الأوسط يومياً على أرضه منذ سنوات. لقد حان الوقت اليوم لنضّم صوتنا إلى صرخة اللّاجئين وأن نناشد أوروبا، كما كافة الدول الأخرى، أن تولي الاهتمام الجدي لهذه الأزمة، لكي لا ينجرف الركام نحو شواطئها. فالسبيل الوحيد والأهم لاحتواء وحلّ هذه المأساة الإنسانية، هو العمل الطارئ والفوري على تسوية النزاع في سوريا وعلى مساعدة الدول المضيفة للّاجئين.