مقدمة
قبل ثمانين عاماً تقريباً، مْثُل جون ماينارد كينيز، وهو أحد أعظم الخبراء الاقتصاديين في القرن العشرين ومن بين أبرز رجالات إنجلترا في عصره، أمام لجنة حكومية بريطانية. كان العالم حينئذ ينزلق إلى دوامة الكساد العظيم. وفي شهادته التي ألقاها أمام هذه اللجنة على بُعد بضعة أميال من هذا المكان، ناشد كينيز الحاضرين أن يسموا فوق النظرة البيروقراطية الضيقة، حتى يتمكنوا من رؤية الصورة الأكبر.
ورغم أن هذه الشهادة جاءت قبل ست سنوات من نشر كتابه الشهير "النظرية العامة"، كان كينيز حينئذ يستبق أفكاره ونظراته المتبصرة: "ندخل في حلقة مفرغة، لا نفعل شيئاً لأننا لا نملك المال؛ لكن لو تحرينا الدقة لقلنا بأننا لا نملك المال لأننا لا نفعل شيئاً".
كان كينيز يريد إنقاذ اقتصاد السوق، وكان يخشى من العواقب السياسية التي قد تنشأ نتيجة عدم القيام بذلك ـ في عصر كان نجم الشيوعية والفاشية آخذاً في الارتفاع. بيد أن دعواته للتغلب على المصالح الضيقة لم تلق آذاناً صاغية. ولم تكن ردود أفعال الحكومات مؤثرة في مواجهة الكساد. وانغمست البلدان في سياسات تنافسية تستهدف إفقار البلدان المجاورة. ثم وقعت الواقعة وحلت الكارثة.
إلا أن أفكار كينيز، التي جاءت من رحم هذه الفرص التي ولدتها الأزمة، مازالت مؤثرة في وقتنا الحالي. لقد أنشأ كينيز وغيره من أبناء جيله نظاماً متعدد الأطراف مازال باقياً إلى الآن، وعلينا تجديده وبث النشاط فيه لمواجهة التحديات التي تواجه عصرنا.
إن ما حققه كينيز وغيره، حتى مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، يجمع بين الفكر والعمل. فقد ساعدوا على تأسيس بنية اقتصادية لفترة ما بعد الحرب، وأرسوا الدعائم الأساسية لكل من مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى ما بات يُعرف لاحقاً باسم منظمة التجارة العالمية.
واليوم، علينا ألا نتردد في نقرن الفكر بالعمل. ففي وقت ضاعت فيه الثقة، نحتاج إلى أفعال تستعيد ثقة الرأي العام وتدلل على أن الحكومات قادرة على مجابهة هذا التحدي. أضف إلى ذلك أن المخاطر الناجمة عن قلة الإجراءات تفوق في حجمها تلك الناجمة عن الإفراط في الإجراءات.
الأزمة الراهنة
يلتقي قادة مجموعة العشرين هذا الأسبوع في لندن في عالم يبدو مألوفاً بالنسبة لكينيز. فأحدث تقديرات صدرت اليوم عن البنك الدولي تتوقع انكماش معدل النمو الاقتصادي العالمي في عام 2009 بنسبة 1.7 في المائة مقارنة بمعدل نمو اقتصادي نسبته 1.9 في المائة في العام الماضي. وهذا هو أول تراجع في الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. ونواجه كذلك انخفاضاً بنسبة 6 في المائة في حجم التجارة العالمية في السلع والخدمات، وهو الأكبر على مدى 80 عاماً.
إن الأزمة التي كانت ذات طبيعة مالية في بداياتها في عام 2007 سرعان ما تحولت إلى أزمة اقتصادية. واليوم، أصبحت هذه الأزمة أزمة بطالة. ونتوقع أن يشهد النمو الاقتصادي في البلدان النامية تباطؤاً حاداً هذا العام ليصل إلى 2.1 في المائة. كما نتوقع حدوث تراجع فعلي في مناطق أوروبا الوسطى والشرقية، وآسيا الوسطى، وأمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي.
وفي ظل هذه الأزمة، تتعرض البلدان النامية لضربات شديدة في شكل موجات متتالية. وتنشأ هذه الموجات نتيجة للانكماش الحاد في معدلات النمو الاقتصادي وتشديد الشروط الائتمانية في بلدان العالم المتقدمة. وكما ساعد الاقتصاد العالمي ذات يوم في انتشال مئات الملايين من البشر من براثن الفقر، فإننا اليوم أمام خطر انتكاس عملية التنمية في ظل انتقال الصدمات السلبية في عالمنا المترابط من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى بقوة وسرعة أكثر من أي وقت مضى.
وتشهد تدفقات رؤوس الأموال الخاصة إلى بلدان العالم النامية تراجعاً حاداً في الوقت الراهن، مع انخفاض صافي التدفقات الوافدة في عام 2009 إلى نحو ثلث مقدارها عند نقطة الذروة قبل عامين والتي بلغت 1.2 تريليون دولار. كما أن تحويلات المهاجرين والمغتربين آخذة في التناقص، مع توقع انخفاضها بواقع 5 في المائة على الأقل في عام 2009.
علاوة على ذلك، تؤدي بعض الإجراءات التي تتخذها البلدان المتقدمة، حتى وإن كانت مفهومة، إلى زيادة المصاعب التي تواجه البلدان النامية. إذ باتت حكومات البلدان المتقدمة، مع إصدارها مستويات كبيرة من الديون المضمونة، تزاحم على التمويل المتاح أمام البلدان النامية المتمتعة بسلامة إدارتها المالية. ونتيجة لذلك، لم تعد البلدان النامية، بما في ذلك البلدان التي تعاني من عجوزات بسيطة في ماليتها العامة، قادرة على الاقتراض على الإطلاق أو أنها باتت تواجه هوامش أعلى بكثير على أسعار الفائدة.
وتشير تقديراتنا إلى أن 84 بلداً نامياً من بين 109 بلدان شملتها مسوحات البنك تواجه نقصاً في التمويل في حدود 270 - 700 مليار دولار هذا العام. وأكبر علامتي استفهام على اتساع هذا المدى الخاص بنقص التمويل تتمحوران حول حجم الديون الخاصة التي تم تمديد آجال استحقاقها، ومقدار رؤوس الأموال الخارجة.
وفي الوقت نفسه، يؤدي تراجع الطلب إلى انخفاض حجم الإنتاج الصناعي، كما يؤدي تدني أسعار السلع الأولية إلى تعريض مركز المالية العامة للكثير من الاقتصادات التي تعتمد على الصادرات لضغوط خانقة. إذ ليس بمقدور سوى ربع البلدان النامية فقط أن تمول برامج لتخفيف حدة الآثار الناجمة عن الانكماش الاقتصادي.
ويمكن أن تتحول هذه الأحداث في مرحلة لاحقة إلى أزمة اجتماعية وإنسانية، مع ما ينطوي عليه ذلك من تداعيات وآثار سياسية. لقد انصب جل الاهتمام على البلدان المتقدمة حيث يواجه الناس خطر فقدان منازلهم وممتلكاتهم ووظائفهم. وهذه ولا شك مصاعب حقيقية. بيد أن الناس في البلدان النامية لا يتوفر لديهم سوى أقل القليل من وسائل الحماية: فلا مدخرات، ولا خدمات تأمين، ولا إعانات بطالة، وفي أحوال كثيرة لا يتوافر لديهم الطعام ذاته.
وتشير تقديرات البنك إلى أن زهاء 53 مليون شخص آخر سيسقطون في براثن الفقر هذا العام عند مستوى يقل عن 1.25 دولار في اليوم للفرد بسبب هذه الأزمة. ويأتي ذلك في أعقاب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية والوقود في السنوات الأخيرة، التي دفعت ما بين 130 و 155 مليون شخص إلى براثن الفقر، لم يستطع كثيرون منهم بعد الخروج منها.
لقد كان العالم قبل الآن يواجه مصاعب في مساعيه الرامية إلى بلوغ الأهداف الإنمائية الثمانية للألفية بحلول عام 2015. والآن فإن بلوغ هذه الأهداف والغايات يبدو أكثر بعداً من ذي قبل. ولننظر مثلاً إلى معدلات وفيات الرضّع وهي إحدى أكثر المشاكل إلحاحاً: فتقديراتنا الحالية تشير إلى أن ما بين 200 ألف و 400 ألف رضّيع سيلقون حتفهم هذا العام نتيجة لانخفاض معدلات النمو.
في مختلف أرجاء العالم
نعيش اليوم في عالم مترابط، إلا أن الإحساس بوطأة هذه الأزمة يختلف من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى على اتساع العالم.
· البلدان الواقعة في منطقة أوروبا الوسطى والشرقية قد تكون الأشدّ تعرضاً للخطر، رغم أن مستويات دخولها أعلى من مثيلاتها في دول أخرى. فمنذ نهاية الحرب الباردة، ارتكزت استراتيجيات النمو في هذه المنطقة على تحقيق التكامل مع الاتحاد الأوروبي والاندماج في الاقتصاد العالمي عن طريق التجارة والاستثمار وحركة العمالة والتحويلات. ولذا، فإن تراجع هذه العوامل يلحق بها بالغ الضرر.
علاوة على ذلك، مع مضي البلدان قدماً نحو الانضمام إلى منطقة اليورو، قدم البعض قروضاً محلية باليورو أو بالفرنك السويسري، الأمر الذي يثير مخاطر التخلف عن السداد في حالة انخفاض قيم العملات المحلية. وتمتلك بلدان أوروبا الغربية المجاورة معظم البنوك العاملة في منطقة أوروبا الوسطى والشرقية، ويثير ذلك مخاطر سحب المساندة. ويمكن أن يكون لخسائر القروض في شرق أوروبا، بدورها، تأثير سلبي على البنوك في عموم أوروبا.
وبطبيعة الحال يتعين على المرء التمييز بين ظروف البلدان المختلفة. لكن منطق تحقيق التكامل الأوروبي نفسه ـ الذي يشكل أكثر المكتسبات الاقتصادية والسياسية نجاحاً على مدى الستين عاماً المنصرمة ـ يقول بأن التأثير النهائي لأوروبا ككل لا يكون أكبر من حاصل مجموع بلدانها إلا عندما يقف الأوروبيون مع بعضهم البعض. وبالمثل، سعت بلدان أوروبا الوسطى والشرقية على مدار التاريخ للتمييز بين ظروفها والظروف الخاصة بجيرانها لتكتشف بعد ذلك أن ضعف أحدها يعرض الجميع للخطر.
وإلى الشرق في هذه المنطقة، تشكل الأزمة الاقتصادية في أوكرانيا اختباراً للتجانس السياسي، أو ربما قدرتها على الاستمرار. فاللوحات الإعلانية الخالية في كييف تعطينا صورة مجازية عن اختفاء الاتجاه. لقد كانت هذه اللوحات، قبل فترة تقل عن ثلاثة أشهر، تحث المستهلكين على زيادة الإنفاق، إلا أن ثلثها بات الآن فارغاً، وحلت مساحات بيضاء وقطع معدنية محل الإعلانات والإغراءات التي كانت موجودة في أيام الازدهار.
· وفي آسيا الوسطى، تواجه الاقتصادات الفقيرة، التي بدأت لتوها في إعادة فتح "طريق الحرير" القديم بعد قرون من العزلة، آفاقاً مستقبلية محفوفة بالمخاطر. ففي العام الماضي، شكلت تحويلات العمالة المهاجرة والمغتربة 43 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في طاجيكستان، و28 في المائة في جمهورية قيرغيز. إلا أن التباطؤ الاقتصادي الذي تشهده كل من روسيا وكازاخستان سيؤدي إلى الاستغناء عن العمالة المهاجرة وعودتها إلى أوطانها. وفي كازاخستان، تتوقع الحكومة ارتفاع معدل البطالة بواقع الضعف ليصل إلى 12 في المائة بنهاية هذا العام. والآن فإن ألماتي، التي كانت تطفو فوق فيض من إيرادات الطفرة النفطية الأخيرة، باتت مدينة مليئة بمواقع إنشاءات غير مستكملة، ورافعات ساكنة، ومبان خاوية على عروشها ـ وأضحت معلماً غير مقصود لآمال تعذر إدراكها.
· أما منطقة أمريكا اللاتينية، التي أصبحت مقومات ماليتها العامة وعملاتها ومقوماتها المالية أكثر قوة مما كان عليه الحال في الماضي، فقد شعرت بوطأة هذه الأزمة أول الأمر من خلال التجارة والاقتصاد الحقيقي.وبينما كانت بداية مخاطر الأزمة في الاقتصادات المتقدمة في قطاع التمويل، ثم انتشرت بعد ذلك إلى قطاعي الصناعات التحويلية والخدمات الأخرى، فإن بداية الضربة التي تلقتها البلدان النامية بسبب هذه الأزمة كانت في القطاعات الإنتاجية ثم انتقلت بعد ذلك إلى البنوك التي أقرضتها. فالمكسيك وأمريكا الوسطى تضررتا بشدة نتيجة لتراجع الطلب الأمريكي وانخفاض التحويلات. ويلحق تدني أسعار السلع الأولية الضرر بالبرازيل حالياً؛ ورغم أن كبر حجم أسواقها المحلية قد خفف من وطأة هذه الأزمة، فإن البرازيل ستواجه آثاراً سلبية مطردة في حالة استمرار تدني معدلات التجارة. واستفادت بلدان مثل شيلي وبيرو من سنوات الازدهار والوفرة في تحسين مركزي ماليتها العامة واحتياطياتها، مما أتاح بعض الارتياح والاطمئنان، إلا أن من شأن استمرار الركود الاقتصادي وتفاقمه أن يدفع الجميع إلى دوامة لا تنتهي. كما تشتد حالياً معاناة اقتصادات بلدان منطقة البحر الكاريبي الضعيفة مع تزايد نضوب العائدات المتأتية من النشاط السياحي.
· وفي منطقة جنوب آسيا، شكلت الأزمة المالية عقبة كؤوداً أمام قدرتها المحدودة على المناورة. فقد خسرت الهند 45 مليار دولار من احتياطياتها بسبب تدفقات رؤوس الأموال إلى الخارج، وانخفض سعر الصرف بأكثر من 20 في المائة، وهوت أسعار الأوراق المالية بنسبة 50 في المائة. كما أخذت التكاليف الاجتماعية في الارتفاع. ووفقاً لتقديرات الحكومة الهندية، خسر القطاع الرسمي من الاقتصاد 500 ألف وظيفة بين شهري أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول من العام الماضي. وفي بنغلاديش، أفادت التقارير بعودة أكثر من 4 آلاف عامل من الخارج في الشهر الماضي فقط إلى هذا البلد الذي استعاد لتوه ديمقراطية هشة. ولجأت باكستان إلى حزمة من إجراءات ضغط الإنفاق والتقشف (شد الأحزمة) حتى تبقى ضمن الحدود التي حددها لها برنامج صندوق النقد الدولي في وقت تواجه فيه حكومتها الجديدة مصاعب جمة مع مجموعات العنف من جهة، وبسبب نزاع دستوري من جهة أخرى.
· وتضررت منطقة شرق آسيا من الأزمة نتيجة لروابطها وصلاتها المتطورة مع سلاسل خدمات التعهيد والتوري العالمية. وتتعرض البلدان الأصغر حجماً والأكثر فقراً، مثل كمبوديا على وجه الخصوص للمعاناة من جراء انهيار الطلب في القطاعات الرئيسية والأسواق الأساسية، حيث فقدت كمبوديا نحو 50 ألف وظيفة في صناعة الملابس، التي تلعب الدور الرئيسي الأوحد في صادراتها. كما باتت الشابات، اللائي استفدن على وجه الخصوص من فرص العمل في قطاع الملابس، الأكثر تعرضاً للمخاطر في الوقت الحالي. وعانت العائلات الرعوية المتنقلة في منغوليا، التي مازالت تشكل ثلث السكان، من تراجع أسعار الكشمير الذي يُعتبر المنتج النقدي الرئيسي لديها، بنسبة 40 في المائة.
أما الاقتصادات الأكبر حجماً في شرق آسيا فتواجه هي الأخرى تحوّلات وتغيرات هائلة. ففي الصين، فقد حوالي 20 مليون من العمالة المهاجرة وظائفها في قطاعي الصناعات التحويلية والإنشاءات. وعاد البعض منهم بالفعل إلى مواطنه في الأقاليم الداخلية بالصين، إلا أنهم بدلاً من العودة إلى فلاحة قطع الأراضي المتناهية الصغر فضلوا البقاء في المدن. وشرعت الصين في تنفيذ خطة كبيرة لتحفيز الاقتصاد، ورغم ذلك تشير توقعات البنك الدولي إلى أن معدلات النمو ستتباطأ من 9 في المائة في عام 2008 إلى 6.5 في المائة هذا العام.
· ولم تكن أفريقيا بمأمن من الأزمة العالمية رغم أنها لا تمثل سوى نسبة ضئيلة للغاية على خارطة التجارة والاستثمار في العالم. ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية، حذر أحد المسؤولين مؤخراً من إمكانية تعرض 350 ألف عامل آخر لفقدان وظائفهم في إقليم كاتانغا نظراً لقيام شركات استخراج المعادن بتخفيض مستوى الإنتاج. وتتوقع جمهورية أفريقيا الوسطى، في ظل انخفاض أسعار الماس، تقلص الإيرادات بنسبة 50 في المائة مقارنة بعام 2008. وفي كينيا، تشهد تحويلات المهاجرين والمغتربين تراجعاً كبيراً. ومع تزايد احتمال تراجع الإيرادات المتأتية من قطاع السياحة بسرعة، ثمة آفاق قاتمة بالنسبة لبلد مثل سيشيل، إذ يُتوقع أن تنكمش الأنشطة السياحية، التي تشكل المصدر الرئيسي للعمالة والنقد الأجنبي بها، بنسبة 25 في المائة في عام 2009 بمفرده.
· أما بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فتُعتبر حتى الآن الأقل تأثراً بالضائقة الائتمانية. لكن من المرجح أن تعاني البلدان القائمة بالإصلاحات في منطقة المغرب العربي انخفاضاً في العائدات المتأتية من قطاع السياحة الوافدة من أوروبا، ومن أسواق صادراتها في أوروبا. وسيتعين الآن على البلدان المعتمدة على تحويلات أبنائها من العاملين في الخارج والمهاجرين النظر في طرق للتعامل مع تدفق العمالة العائدة من الخارج وانخفاض مستوى هذه التحويلات. وحتى البلدان المصدرة للنفط تواجه حالياً درجة كبيرة من الغموض وعدم اليقين بينما تسعى لمواجهة التحدي المتعلق بإقامة روابط وصلات بين الشباب العاطلين عن العمل وأنظمة التدريب والتعليم والأعمال المنتجة في بيئة من المرجح أن توجد فيها معوقات أمام فرص العمل في القطاع الخاص، ناهيك عن استمرار تقلب أسعار السلع الأولية.
علاوة على ذلك، هناك إشكاليات خاصة تشترك فيها هذه المناطق كافة. فنحن نشهد حالياً آثار هذه الأزمة على النساء والفتيات. حيث تعاني النساء من جراء هذه الأزمة بصورة غير متناسبة، وعندما تضطر الأسر إلى ضغط إنفاقها وشد الأحزمة، من المرجح أن يتم إخراج الفتيات من مدارسهن. وعندما تضيق الأرزاق ويقل الطعام، فإن الفتيات الصغيرات يكن في أغلب الأحيان من يعانين من سوء التغذية.
الابتكار والعمل
رغم أن بعض الأوضاع الاقتصادية الحالية تماثل ما وقع في الماضي، إلا أننا لسنا في حقبة الثلاثينيات. لقد ضخت البنوك المركزية قدراً وافراً من السيولة، وتدخل بعضها بطرق مبتكرة للحفاظ على التدفقات الائتمانية. وتحركت البلدان المتقدمة بسرعة أكثر مما كان عليه الحال في أيام كينيز لتعزيز الطلب عن طريق تنفيذ خطط تحفيز الاقتصاد. وتحرت هيئات الرقابة على المؤسسات المالية بصفة عامة الحذر واليقظة حيال المخاطر الشاملة المتعلقة بالانهيارات التي تصيب المستثمرين بالهلع والخوف. وتدخلت المؤسسات المالية المتعددة الأطراف التي تم إنشاؤها في بريتون وودز لمساعدة البلدان على تفادي الأزمات أو معالجتها في حالة وقوعها. وحتى اليوم، لم نشهد عودة جماعية إلى النزعة الحمائية التي كانت بالغة الضرر في الثلاثينيات.
إلا أن عام 2009 سيكون عاماً محفوفاً بالمخاطر. وهذه ليست لحظة للشعور بالرضا التام والقعود عما ينبغي القيام به. ولا يحق لنا اليوم أن نظهر ثقة زائفة وأن نقول بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. وليس هذا وقت للمعالجات ذات الطبيعة القطرية أو حتى الإقليمية الضيقة. والحقيقة الوحيدة المؤكدة التي يمكن أن نستخلصها من الأحداث التي شهدها العام الماضي هي عدم مقدرتنا على التنبؤ بما تخبئه لنا الأقدار، وكيف يمكن لها أن تثير أحداثاً أخرى غير متوقعة.
إن مجابهة هذه التحديات الماثلة أمامنا يقتضي التحلي بروح قوامها الابتكار والإبداع يدعمها العمل.
وينبغي أن تتصف إجراءاتنا بالسرعة والمرونة. وعلينا أن نضع حلولاً للمشاكل على نحو يحشد الموارد والمهارات من شركاء متعددين ـ منهم الحكومات، والمؤسسات الدولية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص.
إننا في حاجة إلى أدوات تحفيز تضطلع ببناء هذه الشراكات الجديدة.
في الشهر الماضي، انضمت مجموعة البنك الدولي إلى البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير ومجموعة البنك الأوروبي للاستثمار لمساندة القطاعات المصرفية في أوروبا الوسطى والشرقية من خلال برنامج تمويل تصل قيمته إلى 24.5 مليار يورو.
كما ساهمت مؤسسة التمويل الدولية (IFC)، وهي ذراع مجموعة البنك المعني بالتعامل مع القطاع الخاص، والبنك الياباني للتعاون الدولي بمبلغ 3 مليارات دولار في صندوق رسملة بغرض المساعدة على تدعيم البنوك العاملة في بلدان الأسواق الصاعدة الأصغر حجماً، والحفاظ على التدفقات الائتمانية إلى مؤسسات الأعمال الصغيرة والأفراد.
وانضمت مؤسسة التمويل الدولية إلى الوكالة الألمانية للتعمير (KfW) لإنشاء صندوق متجدد للسيولة بمبلغ 500 مليون دولار بغرض مساندة مؤسسات التمويل الأصغر، نظراً لأن أصحاب مؤسسات العمل الحر ومنشآت الأعمال الصغيرة يتيحان أفضل شبكة للأمان في هذه الأوقات العصيبة ألا وهي: خلق فرص العمل.
ونحن الآن بصدد تقييم الآثار الناجمة عن الركود الاقتصادي العالمي على الشركات في بلدان العالم النامية، والنظر في كيفية المساعدة على تعبئة رؤوس الأموال الخاصة للمساعدة في إعادة هيكلة الشركات ومعالجة الأصول المتعثرة.
اليوم، يقوم مجلس المديرين التنفيذيين بمجموعة البنك الدولي بدراسة مقترح جديد: إطلاق برنامج لتوفير السيولة للتجارة العالمية بقيمة 45 مليار دولار.
فقد تفاقم التراجع الهائل في حجم التجارة بفعل نقص تمويل التجارة. ولمد يد المساعدة، قمنا أولاً بزيادة تغطية ضمانات الائتمان التجاري لتصل إلى 3 مليارات دولار لصالح بنوك البلدان النامية، التي يوجد الكثير منها في أفريقيا. لكننا تعلمنا أن الضمانات ليست كافية، نظراً لأن الكثير من صغار المقرضين لا يستطيعون الحصول على التمويل بالعملات المحلية.
وسيقوم برنامجنا الجديد لتوفير السيولة للتجارة العالمية بالجمع بين الاستثمار الذي يتيحه البنك بقيمة مليار دولار من موارده الذاتية والتمويل الذي تتيحه الحكومات وبنوك التنمية الإقليمية. ويمكن زيادة حجم هذه الأموال العامة من خلال ترتيب لتقاسم المخاطر مع الشركاء الرئيسيين في القطاع الخاص، مثل ستاندرد تشارترد بنك، وستاندرد بنك، ورابوبنك. ومن ثم يمكن إعادة تدوير قروض التجارة في الوقت الذي يتم فيه سداد القروض السابقة. وسنسعى، من خلال العمل مع منظمة التجارة العالمية، للاستفادة من الموارد والخبرات المتوفرة لدى الوكالات الوطنية لائتمان الصادرات.
ويحدوني الأمل في أن يؤيد قادة بلدان مجموعة العشرين هذه المبادرة المعنية بتوفير السيولة للتجارة. ولا شك أن دعم مجموعة العشرين لنا سيساعدنا على اكتساب مزيد من قوة الدفع حتى يمكننا تعزيز الجهود الرامية لبلوغ الهدف الذي حدده رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون.
دعوة لمجموعة العشرين: إنجاح نظام تعددية الأطراف
خلافاً للأزمات الاقتصادية على مدى الستين عاماً السابقة، فإن هذه الأزمة ذات طبيعة عالمية. وعليه، فهي تستوجب حلاً ذا طبيعة عالمية.
إننا نعيش في اقتصاد عالمي يلعب فيه الأفراد والشركات والنقابات والحكومات الوطنية دوراً مركزياً. حيث يقومون بالمتاجرة والاستثمار والعمل والابتكار والمقايضات والبناء داخل الدول القومية وفيما بينها، مما يحدد قواعد المعاملات فيما بينهم، ويتفقون أحياناً على الالتزام بالشروط والإجراءات التي تم التفاوض بشأنها. إن مجموعة العشرين لن تغير واقع هذا النظام الدولي. لكن يمكن لتدعيم نظام تعددية الأطراف أن يعظّم مزايا الترابط الاقتصادي، ويخفف من مخاطره وسلبياته.
ويشيع حالياً الحديث عن إقامة مؤسسات جديدة أو محافل جديدة بالنسبة للنظام العالمي. وقد يكون ذلك في محله. إلا أنني أقول إن علينا أن نشرع في إصلاح المؤسسات القائمة اليوم ومنحها الصلاحيات والسلطات اللازمة.
فبوسع منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة البنك الدولي، وبنوك التنمية الإقليمية ـ إلى جانب الوكالات التابعة للأمم المتحدة ـ الاضطلاع بدور أكبر في هذا الصدد. ويمكن لهذه المؤسسات ـ التي تضم في عضويتها أكثر من 180 بلداً عضواً، ومع مواصلة الإصلاحات الرامية لتعزيز حصص التصويت وسلطة اتخاذ القرارات الخاصة بالبلدان النامية والصاعدة ـ أن تسد الفجوة بين الدول القومية والاعتماد الاقتصادي المتبادل فيما بينها عن طريق إقامة روابط بين المصالح القومية والإقليمية والعالمية.
وإذا كان القادة جادين بشأن استحداث مسؤوليات أو نظام عالمي جديد، فعليهم الشروع في تحديث نظام تعددية الأطراف لتخويل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي الصلاحيات والسلطات اللازمة لرصد ومتابعة السياسات الوطنية. إن تسليط الضوء على عملية اتخاذ القرارات في البلدان من شأنه المساهمة في تعزيز الشفافية والمساءلة والاتساق فيما بين السياسات الوطنية.
وكخطوة أولى، يتعين على مجموعة العشرين اعتماد نظام الرصد والمتابعة التابع لمنظمة التجارة العالمية لإعطاء دفعة للتجارة ولمقاومة النزعة الانعزالية الاقتصادية، مع العمل في الوقت نفسه على إتمام مفاوضات الدوحة لفتح الأسواق، وتقليص الدعومات، والتصدي للتراجع عن الالتزامات المتفق عليها. إننا نرى حالياً النزعة الحمائية وهي تتسلل من بيننا ـ حيث تتخذ بعض البلدان تدابير على حساب بلدان أخرى: مثل إطلاق حملات تشجع على "شراء منتج بعينه"، و"إتاحة فرص عمل لعمالة من بلدان بعينها" أو "الامتناع عن منح تأشيرات دخول لعمالة من بلدان أخرى".
ومع تقدم عام 2009 وتزايد معدلات البطالة، سيتعرض قادة البلدان لضغوط متزايدة لتحويل مشاكل بلدانهم إلى بلدان أخرى. وقد أظهرت دراسة للبنك الدولي أن 17 بلداً من بين البلدان الأعضاء في مجموعة العشرين قامت بتطبيق إجراءات معوقة للتجارة منذ تعهدها العام لرفض النزعة الحمائية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ومما لا شك فيه أنه لا يوجد بلد يرغب في أن تصبح الانتهاكات المنعزلة نمطاً سائداً ـ إذ من شأن ذلك أن يؤدي إلى تآكل أحد أكثر الدفاعات أهمية بين الأزمة الحالية وحقبة الثلاثينيات.
ويجب منح منظمة التجارة العالمية السلطات والصلاحيات، مع مساندة من البنك الدولي، حتى يمكنها تحديد الإجراءات التي قد تحد من التجارة الدولية حتى وإن لم تكن تشكل مخالفات رسمية لقواعد المنظمة. وإذا كانت بلدان مجموعة العشرين ترى أن تعزيز النظام العالمي هو إجراء مناسب، عليها حينئذ قبول "الضغوط المعنوية" للمراجعات الجماهيرية التي "تسمي المخالفين بأسمائهم وتكشف مخالفاتهم للجمهور".
ثانياً، شرع الكثير من البلدان في تنفيذ خطط لتحفيز الاقتصاد. وسيكون لهذه الخطط بعض التأثير في الحد من الآثار الأكثر سوءاً الناجمة عن حالة الكساد الاقتصادي الحالية. إلا أنه لا يمكن لأحد أن يجزم بأن هذه الخطط تتيح حوافز اقتصادية بما يكفي لتغطية الفترة الزمنية اللازمة للخروج من براثن الأزمة. وهناك أيضاً نقاشات مشروعة حول مكونات هذه الخطط وسبل تنفيذها. وقد اقترح صندوق النقد الدولي خطة لتحفيز الاقتصاد العالمي من 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. ووفقاً لتقديرات الصندوق، فإن التدابير التي تم اتخاذها حتى الآن تبلغ 1.8 في المائة بالنسبة لعام 2009، و1.3 في المائة في عام 2010. لكن يُخشى أن يتم سحب خطة التحفيز العالمية في عام 2010.
ومن الضروري أن تؤسس مجموعة العشرين دوراً رقابياً لصندوق النقد الدولي في هذا المجال لمراجعة تنفيذ خطط تحفيز الاقتصاد هذه، وتقييم نتائجها، والدعوة إلى اتخاذ مزيد من التدابير عند الاقتضاء.
وقد ذكر عدد من القادة بأنه كان على صندوق النقد الدولي أن يلعب دور آلية "الإنذار المبكر" في الفترة التي سبقت اندلاع الأزمة الراهنة ـ وعليه، من المنطقي لهم أن يطلبوا من الصندوق تقييم أداء بلدانهم للخروج من براثن هذه الأزمة.
ثالثاً، من الأهمية بمكان أن تقوم الحكومات بشراء الأصول المتعثرة وإعادة هيكلة أنظمتها المصرفية. ولن يكون الانتعاش الاقتصادي المدفوع بخطط تحفيز المالية العامة قادراً على الاستمرار من تلقاء ذاته دون إصلاح الأنظمة المصرفية. ففي أيام كينيز، أتاحت الحكومات الفرصة للنظام المصرفي العالمي للتفكك بعد إخفاق بنك كريدت آنشتالت (Creditanstalt) في النمسا. واليوم، تسعى البنوك المركزية ووزراء المالية إلى تثبيت هذا النظام. إلا أن مستوى الثقة مازال متدنياً. ولن يبدي أي مستثمر جديد الرغبة في المخاطرة برؤوس الأموال الخاصة إلى أن يتم الإقرار بشفافية بحجم الخسائر، واتضاح مستقبل البنوك. ومن المرجح أن يبدأ الانتعاش خارج القطاع المالي، لكنه لن يكلل بالنجاح في حالة عدم توافر الائتمان اللازم.
إن سياسة تخصيص الأموال الحكومية لإعادة رسملة البنوك ليست بالأمر السهل. فالناس لا يحبون المصرفيين، وخاصة عندما يكونون في حاجة إلى من ينقذهم. إلا أن على القادة أن يوضحوا أن تعافي وول ستريت هو أمر ضروري لانتعاش رجل الشارع.
وينبغي على مجموعة العشرين أن تطلب من صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي القيام برصد ومتابعة التدابير المتخذة في القطاع المصرفي ونتائجها. ونحن نعمل معاً بالفعل في البلدان النامية من خلال برنامج تقييمات القطاع المالي (FSAPs). وينبغي علينا أن نقدم معلومات وملاحظات تقييمية عن البلدان المتقدمة أيضاً، مع أخذ النتائج المنشورة بجدية ومتابعتها.
رابعاً، حتى ونحن نعمل على معالجة الأخطاء السابقة، يتوقع قادة بلدان مجموعة العشرين، ولهم الحق في ذلك، إصلاح أنظمة التنظيم والرقابة المالي. إلا أن معظم السلطة الفعلية الخاصة بأنظمة اللوائح التنظيمية ستظل من اختصاص حكومات البلدان المعنية. ولكن ثمة حاجة لتحسين مستوى التعاون الدولي وتعميقه. وقد شرع منتدى الاستقرار الاقتصادي (FSF)، الذي يرأسه بكل جدارة واقتدار ماريو دراغي، محافظ المصرف المركزي الإيطالي، بالفعل في سد هذه الفجوة. ومع توسيع نطاق عضويته، يمكن لهذا المنتدى أن يصبح مؤسسة مهمة أخرى في نظام متعدد الأطراف أكثر قوة، بحيث يعمل مع صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي بشأن التنفيذ.
التطلع إلى المستقبل: البلدان النامية يجب أن تكون جزءاً من الحل.
ثمة بُعد خامس مفقود في تصدينا للأزمة العالمية الراهنة: بلدان العالم النامية. ففي لندن وواشنطن وباريس، يتحدث الناس عن ما إذا كانوا سيحصلون على مكافآت من عدمه. إلا أن الأمر يختلف تماماً في أجزاء من مناطق أفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية، حيث تدور المعركة حول ما إذا كان الناس سيحصلون على الطعام من عدمه. إن الأزمة الراهنة تُعرض البلدان النامية وشعوبها لمخاطر بالغة. لكن يمكن لهذه البلدان أيضاً أن تكون جزءاً أصيلاً من الحل.
ولهذا السبب، دعوت البلدان المتقدمة إلى استثمار نسبة 0.7 في المائة ـ أي أقل من واحد في المائة ـ من مبالغ خطط تحفيز الاقتصاد الخاصة بها لصالح "صندوق مساندة البلدان المعرّضة للمعاناة" بغرض مساعدة البلدان النامية. والفكرة هنا تتمثل في استخدام الآليات المتعددة الأطراف القائمة ـ بدلاً من إنشاء مؤسسة بيروقراطية جديدة ـ لمساندة برامج شبكات الأمان والبنية التحتية وتقديم التمويل إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة. ويمكن هنا للمانحين استخدام برامج التمويل السريع التابعة لمجموعة البنك الدولي، والوكالات التابعة للأمم المتحدة، أو بنوك التنمية الإقليمية. وقد تعهدت كل من ألمانيا واليابان وبريطانيا بالفعل بتقديم أموال، وأتطلع إلى أن يحذو المزيد من البلدان الأخرى حذوها.
وأثناء أزمة الديون في منطقة أمريكا اللاتينية في الثمانينيات والأزمة الآسيوية في أواخر التسعينيات، عانت الحكومات من ضغوط بسبب نقص السيولة النقدية، واضطرت إلى تقليص البرامج الاجتماعية ـ مما ألحق بالغ الضرر بالفقراء. وأسفر ذلك عن استشراء الاضطرابات الاجتماعية والحرمان بل وحتى اندلاع أعمال العنف.
على مجموعة العشرين التعلم من تلك الأخطاء
كانت التحويلات الاجتماعية فعالة في تنشيط الإنفاق وحماية الفقراء من آثار الأزمة الأكثر سوءاً. ويمكن لبرامج التحويلات النقدية المشروطة أو برامج الوجبات المدرسية الغذائية أن تكون موجهة ومتسمة بالفعالية، وذلك بتكلفة منخفضة نسبياً، تقل حتى عن نسبة واحد في المائة من إجمالي الناتج المحلي للبلد المعني. فتكلفة برامج ناجحة من قبيل برنامج الفرص المكسيكي أو برنامج المنح العائلية البرازيلي تبلغ حوالي 0.4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، في حين تبلغ تكلفة أكبر برنامج لشبكات الأمان في إثيوبيا، وهو شبكة الأمان الإنتاجية، حوالي 1.7 في المائة من إجمالي الناتج المحلي.
وتدعو البلدان الرائدة في مجموعة العشرين إلى تأسيس أنظمة "إنذار مبكر" بالنسبة للمخاطر المالية، وهياكل تنظيمية مالية جديدة، فضلاً عن زيادة الموارد المؤسسية المخصصة لصندوق النقد الدولي حتى يتمكن من توسيع نطاق إجراءاته التدخلية.
ألم يحن الوقت بعد لتأسيس أنظمة "إنذار مبكر" بالنسبة للفقراء؟ وألم يحن الوقت لإضفاء طابع مؤسسي على المساندة المقدمة إلى البلدان الأكثر معاناة أثناء الأزمات، وخاصة البلدان التي لم تكن لها يد في نشوئها؟
وسيتعين على أي التزام بإنشاء هياكل لدعم وتمويل شبكات الأمان من أجل الشرائح الأكثر تعرضاً للخطر أن يقطع شوطاً طويلاً لإثبات أن المجموعة الجديدة، أياً كان اسمها، لن تؤيد وجود نظام عالمي مزدوج المعايير ـ يتيح عقد مؤتمرات قمة لإصلاح الأنظمة المالية، بينما لا يحرك ساكناً لمساعدة الفقراء.
وعلينا أيضاً الاستثمار في مشاريع بنية تحتية يمكنها خلق فرص عمل جديدة، مع العمل في الوقت نفسه على وضع الأساس اللازم لتعزيز الإنتاجية والنمو في المستقبل.
وأثناء أزمة عامي 1997-1998، ساندت استثمارات الصين في قطاعات الطرق والموانئ والمطارات والطاقة والاتصالات السلكية واللاسلكية توفير فرص العمل، وعملت في الوقت نفسه على زيادة معدلات النمو على مدار العقد التالي. وبمقدور البلدان الأخرى، إذا توافر لها الدعم المالي والحوكمة الرشيدة، أن تحذو حذوها، مما يتيح لها إمكانية بناء قدرات إنتاجية لسداد القروض. وفي غضون سعيها للقيام بذلك، ستعزز البلدان النامية الطلب العالمي، بما في ذلك الطلب على السلع الرأسمالية والخدمات من البلدان المتقدمة. وفي واقع الأمر، من المحتمل أن يكون للاستثمارات في البنية التحتية في البلدان النامية تأثير أكبر على تعزيز الإنتاجية والنمو مقارنة بإنشاء "جسور عديمة النفع" في البلدان المتقدمة.
وعلى مدار العقد الماضي، حقق 25 بلداً في أفريقيا جنوب الصحراء بها ثلثا سكان القارة معدل نمو بلغ 6.6 في المائة سنوياً. وأتاح ذلك فرصة لها غير مسبوقة. إلا أن نقص مرافق البنية التحتية الأساسية يشكل عائقاً كبيراً، مما يؤدي إلى خفض إنتاجية الشركات بحوالي 40 في المائة. ويتضرر التكامل الإقليمي بشدة من جراء ذلك. ومع تحسن مرافق البنية التحتية، تشير تقديراتنا إلى أن بالإمكان زيادة معدل النمو في أفريقيا بنسبة 2.2 في المائة.
ويصدق الأمر نفسه على قطاع الزراعة: حيث يمكن للاستثمارات الرامية إلى زيادة إنتاجية الزراعة في أفريقيا على طول سلسلة القيم ـ شاملة: حقوق الملكية، وتوفير البذور والأسمدة، وخدمات الري، والطرق والتخزين، والتسويق ـ أن تساعد صغار المزارعين على كسر حلقة الفقر.
لقد حان الوقت كي نقر بأن تحقيق العولمة الشاملة والمستدامة مرهون بتشجيع وجود أقطاب متعددة للنمو، بما في ذلك البلدان النامية.
وإذا كانت البلدان النامية ستصبح جزءاً من هذا الحل، يجب أن تكون لها مقاعد على الطاولة. لقد أخفقت مجموعة السبع في التوسع في الوقت المناسب لمواجهة الواقع الاقتصادي الدولي. والآن، سنحت الفرصة لمجموعة العشرين. لكن وجود نحو 20 مشاركاً على طاولة مجموعة العشرين يعني وجود أكثر من 160 بلداً خارجها. ولا شك أن بوسع المؤسسات المتعددة الأطراف ـ بقاعدة عضويتها الأوسع نطاقاً ـ أن تساعد في إقامة روابط بين مجموعة العشرين وبقية بلدان العالم.
لكن من الصعوبة بمكان للمجموعات الكبيرة أن تتقاسم المسؤوليات وتخلق غاية مشتركة متجانسة فيما بينها. فداخل مجموعة العشرين، نرى بالفعل نشوء تكتلات مختلفة: فالاتحاد الأوروبي يعمل على تأسيس موقف مشترك لأعضائه الثمانية المشاركين، كما تقوم البرازيل وروسيا والهند والصين بتنسيق بياناتها المشتركة. ولعل هذا التطور أمر متوقع، إلا أنه سيكون مؤسفاً إذا أنشأت المجموعة الجديدة الأوسع نطاقاً خطوطاً فاصلة واهية بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية.
وبدلاً من ذلك، يجب على الولايات المتحدة ـ وهي أكبر بلد متقدم، والصين ـ وهي أكبر بلد نام، إيجاد أرضية مشتركة بينهما. فلدى الصين والولايات المتحدة أكبر خطتين لتحفيز الاقتصاد. إلا أن خطة تحفيز الاقتصاد الأمريكي تعتمد بشدة على تشجيع الاستهلاك، بينما تنظر الصين في الاستثمار في بناء مزيد من القدرات. لكن هذا الاختلال غير قابل للاستمرار مع مرور الوقت. وسيتعين على هذين البلدين التعاون بشأن القيام بتعديلات متبادلة في الوقت الذي يستعيدان فيه عافيتهما من هذه الأزمة ـ بحيث تعمل الولايات المتحدة على زيادة معدلات الادخار عن طريق ضبط المالية العامة والإنفاق، في حين تقوم الصين بزيادة معدلات الاستهلاك وتوسيع نطاق الخدمات إلى الجمهور، وإتاحة مزيد من الفرص إلى مؤسسات الأعمال الصغيرة. ولا ضير في الجمع بين مصالح البلدين بهدف تدعيم مصلحة عامة مشتركة.
إن وجود مجموعة اثنتين قوية [تضم الولايات المتحدة والصين] في إطار مجموعة العشرين، وتشمل كافة مستويات التنمية، من شأنه أن يشكل مرتكزاً لنظام جديد لتعددية الأطراف ـ أي نظام يدرك حقائق النظام الدولي الوليد، وليس فقط مصالح الدول القومية، ولكن أيضاً حقائق الدول القومية المتشابكة من خلال اعتمادها الاقتصادي المتبادل.
كما يقتضي نظام تعددية الأطراف الحديث هذا أن تكون للقوى الاقتصادية الصاعدة مشاركة أوسع في كيفية إدارة مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وهذا أمر صحيح ولا مناص منه. لقد تغير العالم تغيراً جذرياً منذ أن شارك كينيز في مؤتمر بريتون وودز في عام 1944. وعلينا أن نتغير معه.
لقد شرع مجلس محافظي البنك الدولي هذا العام في تنفيذ أول مرحلة من الإصلاحات التي تستهدف زيادة نفوذ البلدان النامية، لكن يتعين علينا الآن مواصلة الجهود الرامية إلى إعادة التوازن بين كل من حقوق التصويت ومقاعد مجلس المديرين التنفيذيين بالبنك. إن القيام بهذه التغييرات سيستلزم أن تعيد كل من أوروبا والولايات المتحدة النظر في الصلاحيات والضوابط القديمة. إلا أن كيفية القيام بذلك متروكة للحكومات للبت فيها. إلا أنني أحثهم على التحلي بالشجاعة وبعد النظر. كما يتعين على القوى الصاعدة من أصحاب المصلحة أن تدرك أن هناك مسؤوليات تأتي يداً بيد مع الحقوق التي سيحصلون عليها، ويشمل ذلك زيادة المساعدات الإنمائية. ولا ينبغي أن يكون الاعتراف بهذه القوى الجديدة على حساب الضعفاء.
إن عملية الإصلاح قد تأخرت كثيراً. ولهذا السبب، طلبت قبل بضعة أشهر من فخامة رئيس جمهورية المكسيك السابق، إرنستو سيدييو، أن يتولى رئاسة لجنة رفيعة المستوى بشأن حوكمة مجموعة البنك الدولي لتقديم توصيات آمل أن تشكل مدخلات مفيدة إلى مداولات البلدان المساهمة.
التحدي الماثل أمامنا
رأينا طوال العقود الستة الأخيرة كيف نجحت الأسواق في انتشال مئات الملايين من البشر من براثن الفقر، مع توسيع مساحة الحريات المتاحة في الوقت نفسه. لكننا رأينا أيضاً كيف أدى الجشع والطيش اللامحدودين إلى تبديد المكتسبات ذاتها. إننا بحاجة إلى اقتصاد سوق له وجه إنساني في القرن الحادي والعشرين. وعلى اقتصادات السوق ذات الوجه الإنساني أن تدرك مسؤوليتها إزاء الأفراد والمجتمعات.
عندما ألقى كينيز كلمته الأخيرة في مؤتمر بريتون وودز، كانت رحى الحرب العالمية الثانية لا تزال دائرة. وفي السياق العام للأحداث، لم تبد الأخبار المتعلقة بتأسيس بعض المؤسسات المبهمة أمراً يستحق الاهتمام، بيد أنها أصبحت تشكل المرتكزات الرئيسية لبنية ما بعد الحرب.
إن مؤتمر قمة مجموعة العشرين القادم يجمع معاً قادة البلدان الرئيسية في العالم، ويشكل تعاونهم في اتخاذ ما يلزم من إجراءات أمراً جوهرياً. ويتعين على قادة البلدان المشاركة الاعتماد على المؤسسات المتعددة الأطراف التي ورثوها والاستفادة منها وتوظيفها. وإذا تصرفت مجموعة العشرين كمجموعة توجيهية، سيكون بمقدور المؤسسات المتعددة الأطراف أن تمد يد العون لها في إيجاد حلول لهذه الأزمة من خلال طرح أفكار وإجراءات عملية.
ونحسن صنعاً، بينما نقتنص الفرص المتاحة في ظل الأزمة الراهنة، لو استحضرنا كلمات كينيز في ملاحظاته الختامية، حين قال: "إذا كنا نستطيع الاستمرار في مهمّة أكبر، وقد بدأنا هذه المهمّة المحدودة، فثمة أمل للعالم".