أولا: مقدمة- نقطةُ انعطاف تاريخية
في قريةٍ في حُضن الجبل في مقاطعة جيزهو بالصين – قريةُ لا يختلفُ حالها عن حالِ الكثير من القرى في أفريقيا وأمريكا الوسطى أو الهند – يتجمّعُ أهلها لمناقشة مستقبلهم. هُمْ لا يطلبون شفقة ولا إحسانا، ولا يريدون وصفةً متعلقة بالسياسات، ولا يتوقون قطعاً إلى زيارةٍ من صاحب مقامٍ رفيعٍ ليُلقي محاضرةً أو خطبة عصماء. إنهم يريدون أن تتاح لهم الفرصة، وهم مستعدون لطيّ صفحة الماضي خلف ظهورهم؛ فهل نحنُ فاعلون مثلهم؟
ريتشارد نيوستادت وإرنست ماي، هما اثنان من أساتذة جامعة هارفارد طبقت شهرتهما الآفاق في العلوم السياسية والتاريخ، جمَعا خلاصة خبرتهما في كتاب صدر بعنوان "إبحار الفكر في ذاكرة الزمن" (Thinking in Time). يقيمُ الكاتبان الحجة ويسوقان البراهين على أنه كثيرا ما تمّ استعمال ما يُسمى "دروس التاريخ" استعمالا خاطئا؛ مما أدى إلى قرارات معيبة وسيئة. ويرى المؤلفان أنه من الأفضل أن يساعد التاريخُ الناس على "إمعان الفكر في تيارات الزمن" بالنظر في القضايا الراهنة في سياق الترابط المتواصل بين خبرة الموروث وتجاربه وفرص المستقبل وإمكاناته، فالتاريخ لا ينفك يطرح الأسئلة ولكنه لا يقدم إجابات.
وعلى هذا النحو إذن، ما هي الأسئلة التي يجب أن نطرحها على أنفسنا، وما هي فرص المستقبل التي ينبغي أن نُمعن النظر فيها ملِيا في خريف عام 2011 في خضم حالة عدم اليقين الراهنة؟ وكيف نربط بين تحدياتِ اليوم وما حدث في الماضي؟
الاجتماعات السنوية المقبلة لمجموعة البنك الدولي هي حصادُ لغرس قديم غرسه الأولون في تجمّعهم في عام 1944 عندما اجتمع ممثلو 44 دولة في مؤتمر بريتون وودز بولاية نيوهامبشير.
في عام 1944، كانت رحى الحرب لا تزال دائرة، تلك الحربُ التي أودت نيرانها بحياة نحو 60 مليون إنسان.
كانت المهمّة شاقّة وعسيرة آنذاك: الوقوف على أسباب الفشل الذريع للدبلوماسية واقتصادات عام 1919 في عقدي العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي؛ وإنشاء نظام اقتصادي دولي جديد متعدد الأطراف؛ والفوز بتحقيق السلام وإعادة البناء والإعمار من أجل المستقبل.
أرسى ذلك المؤتمرُ التاريخيّ القواعدَ لثلاثة مشاريع شكّلت الأساس لما نسميه اليوم نظام بريتون وودز:
مشروع إنشاء صندوق النقد الدولي بغرض تمويل الاختلالات قصيرة الأجل في المدفوعات الدولية من أجل إدارة التعديلات التصحيحية لأسعار الصرف؛ بغية تفادي سياسة "تحقيق المنفعة الذاتية على حساب الغير أو إفقار الجار" وما تنطوي عليه من منافسة قائمة على فرض قيود معقدة على العملة وتقييد تدفقات رأس المال إلى الخارج، وهي سياسةُ سبقَ لها أن دمّرت الاقتصادات وعصفت بكيان المجتمعات؛
مشروع إنشاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير، أو ما يُعرف اليوم بالبنك الدولي، من أجل إتاحة رؤوس أموال طويلة الأجل للبلدان المحتاجة إلى الاستثمار والمساعدة، حتى تتمكن بلدان العالم من تحقيق النمو الاقتصادي، والشراء من بعضها بعضاً، وبعث الأمل في النفوس في المجتمعات التي مزقتها الحرب شر ممزق؛
ومشروع الحد من الحواجز الماثلة أمام التجارة العالمية من أجل تشجيع الأسواق الحرة والانفتاح، ومقاومة خطر الانزلاق إلى دوامات الإجراءات الحمائية الانتقامية والنزاعات الاقتصادية.
قام المؤسسون في بريتون وودز ببناء نظامٍ لعالمهم وقتذاك.
دعونا نتوقف لبرهة فنستحضر في أذهاننا ملامح ذلك العالم.
في ذلك العالم، وفي ظل مآسي الدمار والخراب التي خلفتها الحرب، كان نصيب البلدان المتقدمة من إجمالي الناتج المحلي العالمي يقارب 80 في المائة، وكان نصيب الولايات المتحدة وحدها يربو على 40 في المائة.
في ذلك العالم، كانت البلدان المتقدمة مسؤولة عن أكثر من ثُلثي التجارة.
في ذلك العالم، كانت البلدان النامية الحالية عبارة، في معظمها، عن مستعمرات تابعة آنذاك.
لقد دام نظام 1944 متعدد الأطراف لمدة تُقارب السبعين عاما حتى الآن. كان هذا النظام يئنّ ويزداد أنينه تحت وطأة تردّي الأوضاع - أزمات العملات والهزة النفطية في السبعينيات، وأزمات ديون البلدان النامية في الثمانينيات، وموجات التوسع المتبوعة بانهيارات اقتصادية ومالية في التسعينيات ولكن النظام ظل متماسكا إلى حد كبير.
وعلى الرغم من كل مظاهر الضعف التي شابت نظام بريتون وودز والانتقادات اللاذعة التي وُجّهت إليه وعمليات إصلاحه وترميمه، فإنه قام بتهيئة البيئة الإيجابية المواتية لأعظم حقبة للنمو الاقتصادي، ولأكبر تحول اقتصادي يُحقق نجاحا مُذهلا في أقصر فترة زمنية في التاريخ. ففي خلال عقد من الزمن، استطاعت بعض البلدان مضاعفة نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، في حين استغرقت الدول المعروفة الآن بالدول الصناعية رُبع قرن من الزمان في تحقيق ذلك الهدف في القرن التاسع عشر.
ولكن نظام بريتون وودز نفسه ليس نظاما مُقدسا لا تمس حرمته، وهو ليس قالباً جامداً أو متحجراً يستعصي على التعديل إلى الأبد.
فالرأي السديد الذي تركه لنا المؤسسون في بريتون وودز هو أن تكون الحكمة ضالتنا المنشودة في إدراك أي أمر جديد من الناحية النوعية، والتزام الحصافة وقوة الإرادة في التعاطي معه واستيعابه - أي أن نعمل بمنتهي الجرأة والحسم على أن يكون ذلك في إطار التعاون الجماعي.
واليوم، تومضُ إشارات التاريخ التحذيرية مرة أخرى بأضواء متعاقبة منها الأحمر والأصفر وبعضها أخضر أيضا. فهل سنواجه تحديات عام 2011 ونحن أسرى الماضي نتحرق شوقا وحنينا جارفا إلى العودة إلى أيامٍ قد خلت؟ هل سنواجه هذه التحديات ونحن في دوامة الإنكار النفسي دافنين رؤوسنا في الرمال؟ هل سنتصدى لهذه التحديات بإنحاء اللائمة على هذا الطرف أو ذاك بمرارة قاسية تحجب عنا ملامح الفرصة وشكل الإمكانات؟
هل سنواجه هذه التحديات ونحن نتوارى خجلا؟
أم هل يا ترى سنواجهها مباشرةً دون مواربة، بإيجابية بناءة وإبداع خلاق؟ هل سنُعمل العقل للاستفادة من التجارب السابقة لكن بما يلائم عصرنا الحالي؟ هل سندرك التغيرات الجذرية الهائلة في الظروف الراهنة فنجد لجميع الناس ذكورا وإناثا في كل البلدان طريقا إلى التقدم جنبا إلى جنب؟
ثانيا: استمرار تغير الظروف الاقتصادية والسياسية.
مثلما هو الحال مع كل تحول تاريخي عظيم، نحتاج إلى طرح أسئلة عما يجري على أرض الواقع.
إنها الظروف الاقتصادية والسياسية التي لا تكف عن الحركة.
في حقبة التسعينيات، كانت البلدان النامية تشكل حوالي خُمس النمو الاقتصادي العالمي، ولكنها أصبحت اليوم القوة المحركة والدافعة للاقتصاد العالمي.
في التسعينيات، كانت البلدان النامية تمثل ما يزيد قليلا على 20 في المائة من الاستثمار العالمي، وها هي اليوم تستقطب حوالي 45 في المائة من الاستثمارات.
لقد حققت البلدان النامية، في غضون السنوات العشر الماضية، نموا بوتيرة تزيد سرعتها بأربعة أمثال تقريبا عنها في البلدان المتقدمة، ومن المتوقع أن تستمر هذه الظاهرة في هذا المسار.
وتشير تقديرات بعض التنبؤات إلى أن ستة اقتصادات صاعدة رئيسية - هي البرازيل والصين والهند وإندونيسيا وجمهورية كوريا والاتحاد الروسي - سوف تمثل مُجتمعة بحلول عام 2025 أكثر من نصف النمو العالمي بأكمله.
إننا نعيش بالفعل في عالم لو كانت فيه مقاطعات الصين الاثنتان والثلاثون بلداناً - علما بأن هذه المقاطعات أكثر سكانا من معظم الدول - لكانت ضمن الثلاثة والثلاثين بلدا الأسرع نموا في العالم على مدى الثلاثين عاما الماضية.
تستهلك الصين اليوم أكثر من نصف الإسمنت في العالم؛ وقرابة نصف إنتاج العالم من الحديد الخام والصلب ولحوم الخنازير، وثُلث الإنتاج العالمي من البيض. وهي اليوم أكبر مستهلك في العالم للمعادن، مثل النحاس والألومونيوم والنيكل. ويبلغ صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إليها اليوم حوالي 180 مليار دولار مقابل حوالي 40 مليار دولار قبل عشر سنوات فقط.
وبعد أن تنتهي الصين تماما من بناء أساس النمو الاقتصادي، سوف ينخفض الطلب فيها جزئيا على هذه المواد والمعادن ولكن الهند هي التالية في التحول إلى النمو الأكثر سرعة.
إن عالمنا اليوم ليس هو عالم 1944.
لكن علينا توخي الحذر من افتراض ديمومة اتجاهات الخط المستقيم؛ فزعماء الصين يعرفون جيدا أن نموذج النمو الصيني الناجح غير قابل للاستمرار. وتدرك الصين أنه يتعين عليها مواجهة تحديات التدهور البيئي، والتفاوت واللامساواة، واستخدام الموارد، والقضايا السكانية، ونمو الإنتاجية، والإفراط في الاعتماد على الأسواق الخارجية.
وإذا وصل متوسط نصيب الفرد من الدخل في الصين إلى 16 ألف دولار بحلول عام 2030 (مرتفعا بشدة من مستواه الذي يبلغ حاليا 4 آلاف دولار) - وهو احتمال معقول - فإن تأثير ذلك على العالم سيكون مساويا لإضافة 15 كوريا جنوبية أخرى إلى عالمنا. ومن الصعب معرفة كيفية أن تكون هذه النتيجة قابلة للاستدامة في سياق نموذج النمو الذي تقوده الصادرات والاستثمار.
يساورني الشك أيضا تجاه توقعات الانحدار الاقتصادي المحتوم في البلدان المتقدمة؛ ففي مقدور البلدان المتقدمة تحقيق التغيير الشامل واكتساب قوة دافعة إلى الأمام باتخاذ كل الإجراءات الممكنة ذات المصداقية - وليس مجرد إصلاحات قصيرة الأجل - بشأن الديون والعجوزات من أجل استعادة الثقة، مع التركيز على الإصلاحات الهيكلية والضريبية لتحفيز نمو القطاع الخاص وتعزيز مستويات الإنتاجية وخلق فرص العمل. بل إن توقعات الركود والانحدار المحتوم - سواء طبقا للمفكر الألماني المتشائم أوزوالد سبنغلر أو لفرْضية الكساد والركود التي وضعها الاقتصادي الكينزي المشهور بجامعة هارفارد ألفين هانسن - هي طروحات قديمة عفا عليها الزمن وأثبتت خطأها مرة أخرى.
ولا يمكننا في هذا الوقت أن نقول بأن الاقتصادات المتقدمة لم تعد قادرة على مواجهة أية تحديات خارج حدودها؛ ففي الولايات المتحدة في عهد الرئيس هاري ترومان في عام 1947، كان الأمريكي العادي يُنتج أقل من ثلث ما ينتجه أي أمريكي اليوم. وإذا كان جيل 1947 قد استطاع، بأقل من ثلث نصيب الفرد الأمريكي من الثروة الآن، أن يواجه العالم بكل جسارة وإقدام، فكيف لا يستطيع الأمريكيون الآن فعل الشيء نفسه؟
يؤدي الأمريكيون والأوروبيون واليابانيون وشعوب الدول المتقدمة الأخرى أدوارا بالغة الأهمية في إطلاق طاقات الابتكار، والاستثمار، والتكنولوجيا، والأمن - والتنمية بكل تأكيد. ومازالت مساهمات البلدان المتقدمة ماضية قدما لتمد النظام الدولي الراهن بروافد الدعامات التي يرتكز عليها. وتقضي المصلحة الذاتية للبلدان المتقدمة الكبرى - ومصلحة العالم أجمع - بأن تضع أيديها في أيدي الآخرين ليكون الجميع بناة المستقبل.
هنالك أمرُ جوهريُ يجري الآن، ولكن الدرس المستفاد يقول بأنه بات لزاما علينا أن نقوم بتحديث النظام متعدد الأطراف لا أن نتخلى عنه.
أمرُ جوهريُ يجري الآن، ولكن الدرس المستفاد يقول بأنه بات لزاما علينا أن نُضفي الطابع الديمقراطي على التنمية، لا أن نتراجع القهقرى إلى ما وراء الحدود أو نتدثر بعباءة الثقة الزائفة في رؤية الحقائق من منظور العالم القديم.
خلاصة الدرس المستفاد أنه يجب علينا تغيير مفاهيمنا القديمة ومسمياتنا المنغلقة لا أن نمس التزامنا بالنظام متعدد الأطراف.
فلنستمع في هذه العجالة إلى تلك المسميات.
"العالم الأول" و"العالم الثالث"، "الشمال" و"الجنوب"، "المتقدمة" و"المتخلفة، "المتقدمة" و"الناشئة"، "المانحة" و"المستفيدة"، "المانحة" و"المتلقية"، "الغنية" و"الفقيرة"، "هنّ" و"نحن".
كانت لغة التنمية دوما هي اللغة الصارمة للهيكل الهرمي القديم... العالمُ القديم... النظامُ القديم. ولا تخلو تلك اللغة من بادرة نفاق؛
فعندما تقول بلدان تستخدمُ الفحم في توليد حوالي 50 في المائة من طاقتها الكهربائية لبلدان أكثر فقرا ليس لديها أي بدائل للطاقة "لا يمكنكِ استخدام الفحم". فما هي إذن حقيقة ما تقوله تلك البلدان؟ "افعل ما أقوله لك ولا تقلّد ما أفعله".
عندما تقوم بلدان ذات عجوزات مالية ضخمة بوعظ وإرشاد البلدان الفقيرة حول وجوب الانضباط المالي. فما هي إذن حقيقة ما تقوله تلك البلدان؟ "افعل ما أقوله لك ولا تقلّد ما أفعله".
عندما تشيد بلدانُ بالتجارة الحرة وتتغنى بأهميتها ولكنها تضع الحواجز والعراقيل أمام البلدان النامية. فما هي إذن حقيقة ما تقوله تلك البلدان؟ "افعل ما أقوله لك ولا تقلّد ما أفعله".
عندما تقوم بلدان بتشجيع استمرارية قدرة البلدان الأشد فقرا على تحمل أعباء الديون، في حين أنها هي نفسها غارقة في ديونٍ بلغت أعلى مستوياتها التاريخية. فما هي إذن حقيقة ما تقوله تلك البلدان؟ "افعل ما أقوله لك ولا تقلّد ما أفعله". سوف ينكسر ويتمزق أي اقتصادٍ عالميّ يقوم على نهج " افعل ما أقوله لك ولا تقلّد ما أفعله"، مُلحقاً بالجميع أضرارا لا تُبقي ولا تذر.
يمكنُنا، بل بات لزاما علينا، تغيير الطرق القديمة.
ثالثا: النماذج القديمة لم تعد مناسبة
إننا نرى بالفعل علامات التغير.
ففي مختلف أرجاء العالم، لم تعد النماذج الأوروبية أو اليابانية أو الأمريكية هي النماذج التي تسعى إلى محاكاتها البلدانُ النامية.
يتطلع الكثيرون إلى برامج نظم التحويلات النقدية المشروطة في المكسيك والبرازيل لطابعها المبتكر في الحفاظ على انتظام الأطفال في الذهاب إلى المدارس، وتخفيض معدلات وفيات الرضع والأمّهات، والتغلب على الفقر بدون تقويض الميزانية.
وبرنامج الإصلاح في تركيا على مدى السنوات العشر الماضية هو مصدرُ إلهامٍ واستنهاضٍ للهمم والقدرات في الإصلاحات الجارية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويحظى المزيج السنغافوري من الانفتاح الاقتصادي، ومجموعات الخدمات، ومكافحة الفساد، والتكيف بلا ملل أو كلل مع الأوضاع المتغيرة، بالإعجاب والتقدير حتى في أماكن بعيدة، مثل أفريقيا ودول الخليج العربية وروسيا.
وتجري محاكاة النموذج الهندي لخدمات تكنولوجيا المعلومات في غانا وكينيا ومدغشقر وموزامبيق ونيجيريا والسنغال ورواندا وتنزانيا.
ويُنْظر إلى شبكة النقل الجماعي في كولومبيا بوصفها من أفضل الممارسات الدولية، وتجري محاكاتها وتطبيقها في العديد من المدن عبر أرجاء هذه المنطقة، من ميكسكو سيتي إلى سانتياغو وليما.
وبذلك تمضي العلاقات فيما بين البلدان النامية في تغيير عالم التنمية الذي كنّا نعرفه.
في التسعينيات، حصلت البلدان النامية على 15 في المائة من وارداتها من بلدان نامية أخرى. وزادت هذه النسبة بواقع ثلاثة أمثال في الوقت الحالي.
في عام 2008، شكّل الاستثمار الأجنبي المباشر فيما بين بلدان الجنوب ثُلث إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلدان النامية - علما بأن هذه النسبة مستمرة في الزيادة: إذ تبلغ اليوم، على الأرجح، ما يقارب 40 في المائة.
بالنسبة لقطاع البنية التحتية وحده، أشارت تقديرات الأمم المتحدة إلى أن البلدان النامية قدمت في الفترة 1996-2006 أكثر من 39 في المائة من الاستثمار الأجنبي في أفريقيا، وقرابة 43 في المائة في آسيا، وحوالي 16 في المائة في أمريكا اللاتينية.
لم تعد البلدان النامية مجرد بلدان متلقية للمعونة - بل هي أيضا مصادر لتقديمها. وفي عام 2008، ساهمت الأطراف المانحة الصاعدة بتقديم معونات إنمائية بما يتراوح بين 12 إلى 15 مليار دولار - أي ما يعادل 10 إلى 15 في المائة من مقدار ما قدمته الجهات التقليدية المانحة في البلدان المتقدمة - وهذا تقدير متحفظ على الأرجح.
بطبيعة الحال، تعاني البلدان النامية من المشكلات أيضا؛ فحوالي 75 في المائة من الفقراء الذين يعيشون على دولارين أو أقل للفرد في اليوم هُم من البلدان "متوسطة الدخل". وكما هو مفهوم بالطبع، فإن البلدان النامية حساسة تجاه تحمّل المسؤوليات الجديدة الملقاة على عاتقها.
فماذا يعني ذلك من منظور المستقبل؟
رابعا: ظاهرة التحوّر الجديد والخروج من دائرة المألوف
ظاهرة "التحور" الجديد هي "الخروج من دائرة المألوف والمعتاد".
يتسم التحور الجديد بديناميكية التحول لا ثبات المألوف ؛ فهناك الكثير من البلدان الصاعدة التي تمضي قدما في تشكيل النظام متعدد الأطراف. وربما تدخل بعض الدول في متاهة التردد أيضا. سوف تنضم الاقتصادات الصاعدة إلى شبكات جديدة - من البلدان والمؤسسات الدولية والمجتمع المدني والقطاع الخاص - في سياق مجموعات مؤتلفة متنوعة الأطياف وأنماط متغيرة. وتُزيحُ هذه الشبكاتُ الجديدة الهياكل الهرمية القديمة.
يعني التحور الجديد أن تتبوّأ البلدان مكانها في الشؤون الاقتصادية العالمية بناء على مساعيها الحثيثة والمستمرة، فلا تكون مكانتها أمرا مقضيا ومُسلّماً به بسبب وضعٍ ماض أو حقوق وصلاحيات رسمية مقصورة.
سيكون التحور الجديد في حالة سيولة، مُتقلبا في بعض الأوقات - نتيجة للكثير من الصدمات والأزمات، ولكنه سيكون حافلا أيضا بالمزيد من الفرص المتاحة أمام البلدان للاستفادة من الاقتصاد العالمي.
يهتم التحور الجديد برفع مستوى النمو الاقتصادي، لا الاكتفاء بأي تحولٍ في النمو؛ فهو يروم زيادة النمو من خلال خلق فرص العمل الجديدة لمواجهة تراجع قيمة الفرص القديمة؛ وتحقيق الاستفادة الكاملة من إمكانات النمو المستدام المراعي للبيئة، وحفز القطاع الخاص على الابتكار وخلق تكنولوجيا جديدة وتلبية الاحتياجات المتغيرة.
يهتم التحور الجديد باعتبار أن فرص العمل أكثر من مجرد أحد مشتقات النمو، وإدراك كيفية وإمكانية أن تسهم فرص العمل في تحقيق مزيج متراكب من رفع مستويات المعيشة، وزيادة الإنتاجية، والتغير الاجتماعي السليم، والتلاحم الاجتماعي الأكثر قوة.
يهتم التحور الجديد بالقوة الاقتصادية الذكية: فالناجح هو من ينتبه إلى ضرورة التعلّم من أفكار وخبرات جميع البلدان وتجاربها، بغض النظر عن المسميات القديمة.
يهتم التحور الجديد بالصوت المعبر عن الرأي والتطلعات - صوت المرأة في مجتمعاتها المحلية، وصوت جموع المواطنين في بلدانهم، وصوت البلدان في النظام الدولي؛ فبيتُ القصيد، كما رأينا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هو المساءلة الاجتماعية وشفافية الحكومة ومشاركة المجتمع المدني. يهتم التحور الجديد بالمواطنين الذين يغيّرون عالمنا ونُسرع الخطى في السباق للحاق بهم، ويجب علينا جميعا دعمهم ومساندتهم.
خامسا: أصحاب المصلحة المباشرة المتحلون بروح المسؤولية
لا يعني التكيف مع هذا العالم الجديد مجرد تغيّرات طفيفة في القوة التصويتية في المجلسين التنفيذيين لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي.
لا يعني التكيف تلقي البلدان النامية إرشادات وتعليمات من البلدان المتقدمة.
لا يعني التكيف الشمال والجنوب، وسياسات الكاسب الوحيد والخاسر الوحيد المثيرة للتذمر والشكوى وإنحاء اللائمة على هذا الطرف أو ذاك.
التكيف مع هذا العالم الجديد يعني أن ندرك الآن أنه بات لزاما علينا جميعا، نحنُ أصحاب المصالح المؤثرين فيها والمتأثرين بها، أن نتحلى بروح المسؤولية.
إن الاقتصاد العالمي يقوم على التكافل والاعتماد المتبادل، ونريد من الصين بالتأكيد أن تكون طرفا معنيا مسؤولا.
نريد من الصين باعتبارها شريكاً تجارياً أن تتحلى بروح المسؤولية، فتمضي قدما في تطبيق نظام سعر صرف مسؤول؛ وتوفير حماية مسؤولة للملكية الفكرية؛ وتنفيذ استثمارات مسؤولة؛ وانتهاج سياسات بيئية مسؤولة.
ولكن ذلك كله لا يقتصر بالطبع على الصين.
فعلى أوروبا واليابان والولايات المتحدة أن تكون أطرافا مسؤولة أيضا؛ فقد اتبعت هذه البلدان سبيل المماطلة الطويلة في اتخاذ قرارات صعبة؛ مما أدى إلى تضييق الخيارات المتاحة الآن لاتخاذ عدد قليل من القرارات المؤلمة.
لقد دخل الاقتصاد العالمي في منطقة خطر جديد لأن البلدان الأوروبية لم تترك مجالا يُذكر وتقاوم الحقائق الصعبة بشأن المسؤوليات المشتركة لعملة موحدة.
وقاومت اليابان تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية التي كان يمُكنها إتاحة أدوات وآليات جديدة لنموذجها الاقتصادي الذي يئن تحت وطأة الأعباء.
وتواجه الولايات المتحدة عجوزات مالية قياسية في وقت السلم، دون أن يلوح في الأفق أي نهج متفق عليه لقطع مسببات السقوط في براثن الديون.
يقول الدرس المستفاد من عام 2008 والأزمات السابقة إنك إذا أجلت عمل اليوم فسوف يأتيك المستقبل بما لا تطيقُ من الأعباء وعندها يزداد الألم والحسرة.
ومما يناقض الالتزام بالمسؤولية أن تتعهد منطقة اليورو بالإخلاص والولاء للاتحاد النقدي دون الاعتناء بقضايا الاتحاد المالي التي من شأنها تحقيق نجاح الاتحاد النقدي أو أن تقبل بتحمل آثار وتداعيات البلدان الأعضاء المُثقلة بأعباء الديون غير القادرة على المنافسة. ومما يُخالف التحلي بروح المسؤولية أن تتراخى الولايات المتحدة في مواجهة قضايا أساسية، مثل: الزيادة غير القابلة للاستمرار في الإنفاق على الاستحقاقات، والحاجة إلى نظام ضريبي مساند للنمو الاقتصادي، والسياسة التجارية المتعثرة.
وإذا لم تستطع بلدان أوروبا واليابان والولايات المتحدة الارتقاء إلى مستوى المسؤولية، فإنها لن تمارس ضغوطا ثقيلة على نفسها فحسب بل على الاقتصاد العالمي أيضا.
ليست القصة إذن هي حكاية التغيّرات الهيكلية الجذرية التي جعلت بلدان الأسواق الصاعدة القوى الجديدة المحركة للاقتصاد العالمي، إنها التغيرات الهيكلية الجذرية التي لم تترك أمام البلدان المتقدمة خيارا سوى الضغط فجأة وبشدة على مكابح النمو.
لن تجلس بلدان الأسواق الصاعدة على الهامش؛ ولن تعود ثانية إلى عالم عام 1944 وهياكله الهرمية التي لم يكن لها فيها صوت ولا تأثير، والتي قسمت الدول إلى مناطق نفوذ، وقادة وتابعين إلى قادة وتابعين.
يشير نفاذ البصيرة والحكمة المستلهمة من عام 1944 إلى حاجتنا إلى التحلي بروح القيادة والريادة، والاستدلال المنطقي والمعقول على معالم طريقنا إلى النظام متعدد الأطراف بعد التغيرات التي لحقت به.
والواقع أن زمن التخبط والعشوائية قد انتهى. وإذا لم نسبق الأحداث، وإذا لم نتكيف مع التغير، وإذا لم نترفّع ونعلُ فوق التكتيك السياسي قصير الأمد مُدركين أن القوة لا تأتي إلا في كنف المسؤولية، فإننا عندئذ سوف ننجرف في تيارات خطيرة. إنه درس التاريخ بالنسبة للجميع، البلدان المتقدمة وبلدان الأسواق الصاعدة على حد سواء.
ولكن إذا كان الصواب حليفنا، فإن الإمكانات ستكون هائلة.
سادسا: ماذا يمكن أن يعني هذا العالم الجديد بالنسبة للتنمية؟
على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، انخفض عدد الفقراء الذين يعيشون في البلدان النامية بمقدار النصف.
وفي أربع سنوات فقط، انخفضت معدلات وفيات الأطفال بنسبة 25 في المائة في 18 بلدا أفريقياً.
وخلال السنوات العشر السابقة على اندلاع الأزمة المالية، كان النمو في بلدان منطقة أفريقيا جنوب الصحراء يتراوح في المتوسط بين 5 إلى 6 في المائة سنوياً، وقد تعافت معظم البلدان الأفريقية أو تجاوزت مستويات ما قبل الأزمة. وإذا أمكن الحفاظ على معدلات النمو هذه، فإن إجمالي الناتج المحلي الأفريقي سوف يتضاعف في حوالي 12 سنة، مع زيادة بنسبة 50 في المائة تقريبا من حيث نصيب الفرد، وتوليد إيرادات عامة للاستثمار في الموارد البشرية والإنتاجية والبنية التحتية على نحو لم يسمع به أحد في السنوات السابقة ولا يفوتنا التنويه بطبيعة الحال إلى تقليص الفقر.
وهذه الإمكانات مستمدة أيضا من القطاع الخاص.
وقد رأينا قوة القطاع الخاص في استثماراته التي بلغت 77 مليار دولار في شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء على مدى السنوات العشر الماضية؛ مما أدى إلى ارتفاع عدد المشتركين في خدمة الهاتف المحمول من أقل من 10 ملايين إلى قرابة 400 مليون مشترك.
لقد شاهدنا الإمكانات الهائلة للنمو الذي يقوده القطاع الخاص في التوسع الهائل في استثمارات البلدان النامية في قطاعات الصناعات التحويلية والبنية التحتية.
وقد شاهدنا ذلك في الارتفاع السريع في صناديق الاستثمار في أسهم الشركات والمستثمرين الآخرين الذين يسعون إلى توظيف رؤوس الأموال الخاصة في البلدان النامية.
النقطة التي أثيرها هنا هي نقطة أساسية: فاليوم نرى تكافلا واعتمادا متبادلا في النواحي الاقتصادية والتجارية والمالية بما يفوق ما كان متصورا ومتخيلا في عام 1944؛
نرى اليوم الابتكار والنجاحات العلمية والاتصالات على نحوٍ لم يكن يخطر على البال في عام 1944؛
نرى سلاسل التوريد والنظم اللوجستية وهي تغطي مختلف القارات والمحيطات.
نرى الأقطاب المتعددة للنمو ذات القوى الاقتصادية الجديدة ونمط التنمية فيما بين بلدان الجنوب. لم يكن أحد يتصور أي من هذه التطورات في عام 1944.
فهل نستطيع الآن دمج هذه التغيرات في نظام متعدد الأطراف تم تحديثه لنعلن عن بزوغ اقتصادٍ عالمي جديد؟ اقتصاد يتجاوز التبعية؟ اقتصاد يتجاوز التقسيم المبسط لوصف هؤلاء بالأطراف المانحة وأولئك بالأطراف المتلقية؟
أهو عالم ما بعد المعونة؟
فهل نستطيع الآن دمج هذه التغيرات في نظام متعدد الأطراف تم تحديثه لنعلن عن بزوغ اقتصادٍ عالمي جديد
سابعا: ذهنية جديدة- عالم ما بعد المعونة
قبل نظام بريتون وودز، عُنيت المعونة الخارجية في المقام الأول بتقديم المساعدة في الأزمات الإنسانية، مثل: المجاعات والفيضانات والزلازل، أو الأشخاص الفارين من جحيم الصراعات.
وبعد الدمار الرهيب الذي خلفته الحرب العالمية الثانية وما أعقب ذلك من إنهاء الاستعمار، أصبح من الواضح أن المعونة أداة مفيدة لتحفيز استثمارات القطاع الخاص التي يمكن أن تكون مكبلة بفعل قيود عدم كفاية الادخار المحلي أو الضوابط المفروضة على رأس المال أو ضعف الأوضاع الاقتصادية الأساسية، كما أصبحت المعونة أيضا بمثابة عملة لكسب المناصرة والتأييد في عالم ثنائي القطبية والتنافس خلال الحرب الباردة.
لقد تغير عالم 1944 تغيراً جذرياً، وقد آن الأوان للتفكير من جديد في المعونة على نحو مختلف.
لا تعني التغيرات بأي حال من الأحوال أن المعونة لم يعد لها مكان - أو أن البلدان المتقدمة يجب ألاّ تفي بالتزامات تقديم المعونة أو أن نتجاهل ما حققته المعونة من إنجازات.
لقد تعاونت مجموعة البنك الدولي في السنوات العشر الماضية مع أفقر 79 بلدا في العالم من خلال المؤسسة الدولية للتنمية، وهي ذراع المجموعة المعنية بمساعدة البلدان الأشد فقرا، وأسفر ذلك عن توفير خدمات الرعاية الصحية الأساسية والتغذية أو الخدمات السكانية لصالح أكثر من 47 مليون شخص؛ وتحسين تغذية 98 مليون طفل؛ وتمكين أكثر من 113 مليون شخص من الوصول إلى مصادر محسنة لمياه الشرب؛ وتحصين 310 ملايين طفل باللقاحات والأمصال.
من منظور ملايين الناس في مختلف أنحاء العالم، تعتبر المعونة مسألة حياة أو موت؛ فالمعونة تظل أداة عظيمة القيمة لتمكين البلدان من الارتقاء في سلّم النمو الاقتصادي.
نرى ذلك في القرن الأفريقي حيث الحاجة ماسة على نحوٍ ملح لمساعدة أكثر من 12 مليون إنسان ليسوا فقط ضحايا أعتى موجات الجفاف وأشدها ضررا وتدميرا على مدى 60 عاما، بل هم أيضا ضحايا لقتال وحشي لا يُلقي لنتائجه الكارثية أدنى بال.
نرى ذلك في أفغانستان حيث قدمت برامج المعونة جيدة التوجيه مساهمات حقيقية في إتاحة فرصة الحصول على التعليم والرعاية الصحية الأساسية وتحسين مستويات المعيشة في المناطق الريفية ومساندة نمو القطاع الخاص وبناء أسباب القوة والتمكين في المجتمعات المحلية وتفعيل المشاركة في التنمية.
إلا أنه مازال هنالك الكثير مما ينبغي عمله وإنجازه من أجل تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية.
ومازال هناك الكثير مما ينبغي القيام به للوصول إلى "مليار القاع" - قرابة المليار ونصف المليار شخص الذين يعيشون الآن في بلدان مكتوية بهشاشة الأوضاع ولهيب الصراع واحتدام العنف. لم يتمكن أي بلد من هذه البلدان حتى الآن من تحقيق ولو هدف واحد من الأهداف الإنمائية للألفية.
ولكن المعونة ليست أمرا مضمونا ومسلما به مدى الحياة.
كما أن المعونة لا تعني أن تُعطي البلدان المتقدمة باليمين في حين تمتد يدها اليسرى لإقصاء البلدان النامية بعيدا عن الأسواق الزراعية أو التجارية أو لتقييد قدرتها على الحصول على الطاقة المستدامة.
في عالم ما بعد المعونة، يجب دمج المساعدات وربطها بإستراتيجيات النمو العالمي الذي تحركه أساساً استثمارات القطاع الخاص والمبادأة والإقدام والريادة في تنفيذ المشاريع والأعمال. ليس الهدف من المعونة هو البر والإحسان، بل تفعيل لمصلحة مشتركة ومتبادلة في بناء المزيد من أقطاب النمو.
في عالم ما بعد المعونة، سوف تكون السياسات الاقتصادية السليمة لمجموعة السبع على القدر نفسه من أهمية المعونة كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي.
في عالم ما بعد المعونة، ستكون اتفاقيات مجموعة العشرين بشأن الاختلالات، أو الإصلاحات الهيكلية، أو إعانات دعم الوقود الأحفوري، والأمن الغذائي على القدر نفسه من أهمية المعونة كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي.
في عالم ما بعد المعونة، تقوم بلدان الأسواق الصاعدة المتقدمة بمساعدة البلدان المتأخرة عن الركب عن طريق تقديم الخبرات والتجارب، وفتح الأسواق، والاستثمارات، وتقديم أنواع جديدة من المساعدات.
في عالم ما بعد المعونة، تضطلع آليات جديدة للاستثمار، مثل شركة إدارة الأصول وهي شركة فرعية مملوكة وتابعة لمؤسسة التمويل الدولية، بخلق قنوات جديدة لخدمات الوساطة في تعبئة رأس المال من خلال الاستثمارات الخاصة.
في عالم ما بعد المعونة، تُوفر الأدوات المالية الجديدة للمزارعين ذوي الحيازات الصغيرة التأمين ضد الجفاف، أو التأمين للبلدان ضد الأعاصير والعواصف، وخلق أسواق سندات بالعملات المحلية واستقطاب استثمارات جديدة في حقوق الملكية وأسهم رأس المال، وإنشاء بورصات جديدة للسلع المحلية الأساسية، أو أدوات التغطية التحوطية للبلدان النامية.
في عالم ما بعد المعونة، تضطلع أنشطة مساندة الابتكار والنجاحات العلمية بتطوير المحاصيل المقاومة للجفاف، والغنية بالقيمة الغذائية، والمحققة لزيادة الإنتاجية الزراعية؛ وخلق مصادر الطاقة المتسمة بالكفاءة وعدم انبعاث غازات الكربون؛ والتوصل إلى أمصال ولقاحات جديدة لإنقاذ الحياة.
ينبغي أن تدرك البلدان المتقدمة أن من مصلحتها الذاتية أن تساعد البلدان النامية على أن تمضي في سبيلها على مسارٍ يفضي إلى تحقيق النمو المستدام. ويجب على البلدان المتقدمة الوفاء بكل التزاماتها، ولكن علينا أن ندرك أيضاً أن مُناخ المعونة سيكون أكثر فتورا في ظل ما تعانيه البلدان المانحة من مشكلات ناجمة عن ديونها.
يحق لدافعي الضرائب أيضا معرفة أن مؤسسات البنك الدولي والمؤسسات الإنمائية الأخرى تتحلى بروح المسؤولية باعتبارها أطرافاً صاحبة مصلحة مباشرة وحقيقية.
نحنُ نحتاج إلى العمل على أفضل وجه لتبيان فاعلية المعونة بالدليل والبرهان، وتوضيح القيمة مقابل المال، والإشارة إلى النتائج المحققة. نحتاج إلى تعبئة المعونة على نحوٍ أكثر كفاءة وفاعلية من خلال الأدوات الجديدة، وتوسيع دائرة المانحين عن طريق تفعيل إشراك المزيد من الأطراف المعنية وصاحبة الشأن من خلال المزيد من النُهُج المبتكرة.
ثامنا: ماذا يمكن أن يعني "عالم ما بعد المعونة" من الناحية العملية؟
ماذا يمكن أن يعني "عالم ما بعد المعونة" من الناحية العملية؟على الصعيد القطري، يعني عالم ما بعد المعونة تعبئة واستقطاب المدخرات والإيرادات المحلية بشفافية؛ وإرساء الاشتمال المالي في أنظمة الخدمات الائتمانية والادخار للجميع، وخاصة المرأة؛ وإتاحة التمويل من خلال الأسواق الرأسمالية المحلية بالعملات المحلية.
يعني الحكم الرشيد والانفتاح والشفافية وتسهيل المشاركة القوية من قبل المواطنين وضمان قدرتهم وحريتهم في التعبير عن الآراء والتطلعات.
يعني استثمار البلد في شعبه، بما في ذلك إتاحة الاستفادة من الخدمات المتسمة بالكفاءة لشبكات الأمان الاجتماعي والخدمات العمومية الأساسية والتعليم الجيد المرتبط بالتدريب ومتطلبات الحصول على الوظائف - مما يُلزم المؤسسات العامة والموظفين الحكوميين بالقدرة على تقديم الخدمات، وليس تمثيل المصالح فحسب.
يعني تشجيع أصحاب المشاريع والشركات الصغيرة والاستثمار الخاص والإبداع والابتكار.
يعني الاستثمار في البنية التحتية لبناء الأساس للإنتاجية في المستقبل - ويشمل ذلك علاقات الشراكة المبتكرة بين القطاعين العام والخاص.
يعني الاستثمار في الاتصال والتواصل وجمع البيانات وتبادل المعلومات في الوقت نفسه؛ ففي هذا الاقتصاد العالمي الجديد، لن تقل أهمية البيانات والمعلومات الجيدة بأي حال عن أهمية المساعدات المالية. وبالفعل فإن مبادرة البنك الدولي المعنية "بفتح قواعد البيانات ومصادر المعرفة والحلول أمام الجميع" توضح بجلاء مدى قوة المعلومات. فمن قضايا المساواة بين الجنسين إلى السياسة التجارية، يمكن أن يقدم البنك إحدى سلع النفع العام من خلال إنتاج البيانات وتبادلها وتقديم الرعاية والدعم لكل من يساعد في إضفاء الطابع الديمقراطي على التنمية.
على الصعيد الإقليمي، يعني التحرك في آفاق ما بعد المعونة التكامل من أجل المساعدة في توسيع نطاق الأسواق، وتسهيل الخدمات اللوجستية اللازمة لتعزيز التجارة، وتبسيط النظم الجمركية، وتوفير الطاقة، والاستثمار في البنية التحتية الإقليمية.
على الصعيد الدولي، يعني الابتكار متعدد الأطراف لتعزيز التقدم في شتى مناحي الانفتاح التجاري والاستثمار، والحصول على الطاقة، والأمن الغذائي، والمنافسة في الخدمات، وتغير المناخ - وعدم التريث دائما لانتظار مشاركة الجميع بل التحرك قدما إلى الأمام حيثما لاحت إمكانية إنشاء تحالفات من أجل التقدم.
ويعني استخدام النظام متعدد الأطراف - بما في ذلك مجموعة العشرين - في البحث عن فرص وإمكانات جديدة على صعيد السياسات والتمويل - مع توزيع الأدوار على الجميع.
في منظور البنك الدولي، يعني عالم ما بعد المعونة استمرار البنك الدولي نفسه في التحول ليصبح شريكا رائدا في فتح مصادر المعرفة - مستمدا من آفاق البحث وإعداد المعلومات وتبادلها كل الخبرات والتجارب والحلول من جميع أنحاء العالم. وسيقوم البنك الدولي بالاستثمار والعمل وسيطا للاستثمار في بناء الأسواق والمؤسسات والقدرات، سواء على المستويات المختلفة للحكومات أو شركات الأعمال أو المجتمع المدني. وسيضطلع البنك الدولي بدور تحفيزي للعمل في إطار نموذج التنمية ذات الطابع الديمقراطي. وسيعمل وكيلا لتقديم الحلول متعددة الأطراف للمشكلات الاقتصادية ومشكلات التنمية والفقر وإدارة المخاطر. وسيواصل دوره القيادي والريادي في تحقيق النمو الاقتصادي المستدام الذي يشمل الجميع.
قبل ثلاث سنوات، اقترحت فكرة مبتكرة: تخصيص نسبة واحد في المائة من أصول صناديق الثروات السيادية، وهي مصدر جديد للمدخرات العالمية، للاستثمار في تحقيق النمو الاقتصادي في أفريقيا. واليوم، تضطلع شركة إدارة الأصول التابعة لمؤسسة التمويل الدولية بتنفيذ هذه الفكرة بإتاحة موارد تمويلية للاستثمار في الأسواق التي تعاني نقصا في كفاية الخدمات، وهي أفريقيا وأمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي. ويبلغ إجمالي الارتباطات المقدمة إلى الموارد التي تديرها شركة إدارة الأصول أكثر من 4 مليارات دولار - منها حوالي 3 مليارات دولار من هيئات استثمار خارجية، مثل صناديق الثروات السيادية التي ليس لها أية خبرة تُذكر في التعامل مع الأسواق الصاعدة.
تاسعا: الحل القائم على تفعيل نسبة الخمسين في المائة
أرغب اليوم في اقتراح فكرة أخرى يمكنها أن تجعلنا أكثر اقترابا من عالم ما بعد المعونة: الحل القائم على نسبة 50 في المائة.
تشكل النساء 50 في المائة من سكان العالم و40 في المائة من القوى العاملة في العالم. وفي أفريقيا، تعد النساء العمود الفقري لمجتمعاتهن المحلية: فهنّ يمثلن الأغلبية المشتغلة بالزراعة ويُنتجن 80 في المائة من الغذاء في القارة.
ومع ذلك، فإن النساء لا يمتلكن سوى 1 في المائة من الثروة في العالم
كما أن احتمال بقاء النساء والبنات على قيد الحياة يقل كثيراً عن بقاء الرجال والبنين خلال فترة الرضاعة أو الطفولة المبكرة أو البقاء خلال سنوات الإنجاب.
كما أن احتمال حصول النساء على مقابل مادي أقل كثيراً نظير ما يؤدينه من عمل، أو زراعة محاصيل مربحة، أو امتلاك أصول، مثل الأراضي.
وهن على الأرجح أقل قدرة على التأثير في القرارات المتخذة على مستوى الأسرة أو التحكم في موارد الأسرة.
ومع ذلك، تتوافر الأدلة والشواهد القوية على تمتع المرأة بإمكانات بشرية واجتماعية واقتصادية هائلة.
نعرفُ أن تحقيق المساواة بين الجنسين هو اقتصاد حصيفُ قوامه حُسن الاستفادة من الموارد البشرية.
نعلمُ أن البلدان التي ترتفع فيها المساواة بين الجنسين تنخفض فيها في العادة معدلات الفقر؛ نعلمُ أن فرصة الطفل في البقاء على قيد الحياة تكون أعلى كثيراً إذا كان الدخل يذهب إلى أيدي الأم؛ نعلمُ أن إعطاء المرأة مزيدا من القدرة في التحكم في المقومات والمستلزمات الزراعية سيؤدي ببساطة إلى زيادة الإنتاجية بنسبة تصل إلى 20 في المائة في بعض البلدان.
ولكن الأمر لا يتعلق فقط بالإمكانات الاقتصادية. أعتقد أن المساواة بين الجنسين حق طبيعي، لا مجرد مورد من الموارد.
وليس تناول قضايا المساواة بين الجنسين مقصورا على البلدان النامية وحدها؛ ففي جميع أنحاء العالم، تتعرض واحدة من كل عشر نساء للاعتداء والإيذاء الجنسي أو المادي من جانب شريك أو شخص ما عرفته في حياتها.
نستطيع التحدث عن التخلي تماما عن مسميات قديمة، مثل: "الشمال والجنوب"، "المتقدمة والمتخلفة"، "العالم الأول والعالم الثالث"، ولكن لا نستطيع فعل ذلك بشأن "هنّ ونحن" فالتفرقة ما تزال قائمة.
ربما يتساءل المرء: ما هي علاقة ذلك وارتباطه بعالم ما بعد المعونة؟ ببساطة شديدة، يعني ذلك تغيير السياسات، وتمكين كل شخص - رجلا كان أم امرأة - من أسباب القوة، لأن الأمر أكبر من الاكتفاء بتقديم حزم المعونة.
نستطيع تقديم المعونة لتحسين مساندة النساء والفتيات؛ وبناء مستوصفات طبية ومدارس؛ وتعزيز حملات التطعيم وإتاحة القدرة على الحصول على خدمات الصحة الإنجابية، بل يجب علينا فعل ذلك؛ فتقديم المعونة وحده لا يكفي.
لن نستطيع إطلاق الإمكانات والقدرات الكاملة لنصف سكان العالم إلا إذا قمنا على الصعيد العالمي بمعالجة قضية المساواة بين الجنسين؛ وحتى تقرّ البلدان والمجتمعات المحلية والأسر المعيشية في جميع ربوع العالم بحقوق المرأة وتغيير قواعد اللامساواة بين الجنسين.
إن إعطاء المرأة الحق في امتلاك الأراضي؛ والحق في ملكية الشركات وإدارتها؛ والحق في الميراث؛ وزيادة قدرتها على الكسب؛ وزيادة قدرتها على التحكم في موارد أسرتها ؛ كلها عوامل يمكن أن تؤدي إلى تحسين صحة الطفل، وزيادة تعليم البنات، وتعزيز إقامة المشاريع وأنشطة الأعمال ورفع الإنتاجية الاقتصادية، وذلك يجعلنا أكثر اقترابا من عالم ما بعد المعونة.
هذا هو في الحقيقة إضفاء الطابع الديمقراطي على التنمية.
سيقوم البنك الدولي في الأسبوع القادم بنشر مطبوعة "تقرير عن التنمية في العالم: المساواة بين الجنسين والتنمية". وبناءً على هذا التقرير، سوف نقوم بما يلي:
البناء على مبلغ 65 مليار دولار قدمناه خلال السنوات الخمس الماضية لمساندة تعليم البنات وصحة المرأة وتعزيز قدرة النساء على الحصول على الائتمان والأراضي والخدمات الزراعية وفرص العمل وخدمات البنية التحتية. كان هذا العمل مهما بمعنى الكلمة ولكنه ليس كافيا أو لم يكن مُجسدا على نحوٍ كافٍ في محاور تركيز ما نعمله.
سوف نعمل على مراعاة دمج خلاصة الدراسات التحليلية والتشخيصية لأبعاد قضايا المساواة بين الجنسين في جميع الإستراتيجيات القطرية؛ وإعداد مؤشرات أفضل لتحليل أثر الاستثمارات على النساء؛ والعمل مع البلدان الأعضاء من أجل إعداد بيانات أكثر وأفضل عن قضايا الجنسين، مثل ملكية الأصول، والقدرة على الحصول على الائتمان، وأجهزة العدالة.
وحيثما رأينا بلدانا غير راغبة في العمل معنا على تقليل الفجوات بين الجنسين، فإننا سوف نبحث عن سبل أخرى لدفع الأجندة الخاصة بالمساواة بين الجنسين إلى الأمام من خلال الحوار وعلاقات الشراكة واستلهام الأفكار من أمثلة لبلدان نامية أخرى.
وسوف نواصل العمل على جعل التكافؤ بين الجنسين في مناصب المديرين في مجموعة البنك الدولي أحد أهدافنا. وقد وصلنا إلى نسبة 51 في المائة على مستوى نواب الرئيس والوظائف الأعلى.
عاشرا: الخاتمة
منذ أن أصبحت رئيسا لمجموعة البنك الدولي قبل أربع سنوات، تكلمت كثيرا عن أهمية تحديث النظام متعدد الأطراف من أجل تحسين إدراك التحولات الاقتصادية التي تحدث في عالم اليوم وانعكاساتها.
تحدثتُ عن الحاجة إلى إسباغ الطابع الديمقراطي على التنمية حتى يمكن أن يؤدي الجميع - الشمال والجنوب والشرق والغرب، والأغنياء والفقراء، والرجال والنساء - دورا في تصميم الحلول الإنمائية وتنفيذها والاستمرار في تحسينها.
وتناولت في أحاديثي الحاجة إلى جعل الانفتاح والشفافية والمساءلة سماتٍ وخصائصَ رئيسية - ليس بالنسبة لمجموعة البنك الدولي فحسب، بل في السياسة الحكومية في جميع أنحاء العالم.
تحدثتُ عن الحاجة إلى صياغة عقد اجتماعي جديد - للإقرار والتسليم بأن الاستثمار في حرية وقدرة المواطنين على التعبير، والاستثمارات في المجتمع المدني والمساءلة الاجتماعية هي استثمارات مهمة بالنسبة للتنمية مثلها مثل الاستثمارات في البنية التحتية والشركات والمصانع أو المزارع.
لقد حاولت اليوم توضيح كيفية أن عوامل تحسين قدرة النظام متعدد الأطراف على تجسيد انعكاسات الحقائق الاقتصادية في عالم اليوم، وتعميق جذورها في مبدأ التحلي بروح المسؤولية من جانب جميع أصحاب المصالح المؤثرين فيها والمتأثرين بها، وزيادة ربطها بالقطاع الخاص وشبكات المجتمع المدني، وتعزيز الالتزام بالحلول العملية للمشكلات والابتكار، هي عوامل يمكنها أن تُحدث انطلاقة عالم ما بعد المعونة، وهو عالم مقاصده هي تحقيق الرخاء لا تقديم المسكنات، وتفعيل الإمكانات والقدرات لا المحسوبية والمحاباة؛ والكرامة لا التبعية.
وربما يرى البعض أن هذا النهج راديكالي إلى حد بعيد، وأن ذلك ربما يؤدي على نحوٍ ما إلى غضب البلدان المتقدمة وتحللها من ارتباطاتها والتزاماتها بتقديم المعونة. كلا، لن يكون الأمر كذلك.
وربما يرى البعض الآخر أن هذا النهج محفوف بالكثير من المخاطر، وأنه سيعطي دورا لأدوات وأسواق مالية جديدة مما يمكن أن يؤدي إلى وقوع البلدان النامية في مشكلات. كلا، لن يكون الأمر كذلك.
وربما يرى البعض أن هذا النهج سابق لأوانه، لأن البلدان النامية ليست مستعدة لأن تكون من الأطراف التي تتحلى بروح المسؤولية.
وإنني لأتساءل، هل يبدو أن البلدان النامية أقل استعدادا من البلدان المتقدمة؟
نجد بالفعل أن التدفقات المالية للقطاع الخاص هي الآن بمستويات ضخمة بحيث تبدو المساعدات الإنمائية الرسمية ضئيلة إلى جانبها. وبالفعل هنالك بعض المساهمات الخيرية التي تتضاءل إلى جوارها المعونات الحكومية الثنائية. إن أطرافا جديدة ومانحين جُددا ماضون بالفعل في سبيلهم لإحداث تحولات مشهودة في عالم المعونة الذي نعرفه.
إننا في حاجة إلى الإبحار في ذاكرة الزمن مستلهمين الأفكار والرؤى الثاقبة من دعاة النظام متعدد الأطراف الشجعان في بريتون وودز؛ علينا أن نطرح الأسئلة لتمييز الظروف والملابسات في وقتنا؛ علينا أن نعمل بهدف الاستعداد للأوقات القادمة. لقد حان الوقت لتعويض ما فات والمضي قدما؛ حان الوقت لتحمل مسؤولياتنا؛ والابتكار من أجل المستقبل، لا لنصبح أسرى للماضي.