السيد الرئيس، السادة المحافظين، والوزراء، والضيوف الكرام، ومواطني العالم،
إنه لشرف لي أن أخاطبكم لأول مرة بصفتي رئيسا لمجموعة البنك الدولي.
وأود بداية أن أشكر السلطات اليابانية على ترحيبها الحار وحسن ضيافتها. إننا نستلهم جميعا ما تحلت به اليابان من مرونة وتصميم في التعافي من آثار الزلزال وطوفان التسونامي العام الماضي. ونُعبِّر عن شكرنا على المساهمة السخية التي قدمها الشعب الياباني لمسيرة التنمية في العالم لعقود كثيرة.
اسمحوا لي أيضا أن أتوجه بالشكر لكل من رياض سلامة وماريك بيلكا. كما أتقدم بخالص الشكر للسيدة كريستين لاغارد على ما قدمته لي من مساندة قيمة خلال الأشهر الثلاثة الأولى لي في منصبي.
لقد مر نحو نصف قرن منذ عُقدت هذه الاجتماعات السنوية آخر مرة في طوكيو. في ذلك الوقت، كانت اليابان في غمرة تحولاتها الاقتصادية المشهودة. وفي أوروبا، كانت البلدان التي قضت قرونا تتطاحن في حروب ترسي أسس السلام من خلال توطيد أواصر التكامل الاقتصادي. وفي أفريقيا، كانت موجات الاستقلال تتيح فرصا جديدة لتقرير المصير. وفي أمريكا، كانت حركة الحقوق المدنية تتصدي للتفرقة العنصرية الضاربة أطنابها في مؤسسات المجتمع.
لقد صوَّر مارتن لوثر كينغ هذا السعي العالمي وراء التقدم والكرامة حينما قال " قوس العالم الأخلاقي طويل، ولكنه ينحني نحو العدالة ". وكشفت كلمات الدكتور كينغ عن تفاؤل أساسي بشأن الأوضاع الإنسانية، وهو تفاؤل ظل يُغذِّي حياتي، وها أنا أحمله معي إلى مجموعة البنك الدولي.
ومع ذلك، فإن تقدمنا ليس أمرا مُقدَّرا سلفا، فهو يعتمد على العمل الجماعي. والتحوُّلات التي حدثت قبل خمسة عقود تظهر كيف يستطيع أفراد يعملون معا أن يثنوا قوس التاريخ باتجاه مزيد من الفرص لمزيد من الناس في مزيد من الأماكن.
تحدي ثني القوس
مع اجتماعنا في طوكيو للمرة الثانية، يتميَّز عصرنا مرة أخرى بتحديات غير عادية. فبعد مرور أربعة أعوام على بداية نشوب الأزمة المالية العالمية، ما زلنا جميعا نسعى وفي جهد جماعي لإعادة بناء الاستقرار، واستعادة الثقة. ولا تزال أوضاع عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي السائدة في أوروبا تُعرِّض للخطر النمو والوظائف في البلدان النامية. وفي الوقت نفسه، فإن ارتفاع أسعار المواد الغذائية يضع ضغوطا على ميزانيات أشد البلدان فقرا. وبدأت بلدان كثيرة في الشرق الأوسط السير في تنفيذ أهم تحولات تشهدها في عدة أجيال.
وبفضل التجديد السخي لموارد المؤسسة الدولية للتنمية وزيادة رأسمال البنك، تقف مجموعة البنك الدولي على أهبة الاستعداد لمساعدة البلدان النامية في سعيها لحماية نفسها من عدم الاستقرار السائد اليوم ولتحقيق أهدافها الإنمائية على الأجل الأطول. ونحن نعمل بالفعل من أجل تسريع إجراءات صرف الأموال للحفاظ على استثمارات البنية التحتية التي تعزز النمو، ونقدم أيضا تسهيلات ائتمانية لمؤسسات الأعمال الصغيرة والمتوسطة. ونحن نساعد البلدان المتعاملة معنا على تقوية شبكات الأمان الاجتماعي لحماية المحرومين والمعرضين للخطر. ونعمل حاليا على قدرة المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة على التكيُّف من خلال قروض في قطاع الزراعة المستدامة.
وفي مختلف أنحاء العالم، فإن الأمل المشترك بمستقبل أفضل هو الذي يربط الناس ببعضهم بعضا. فأناس مثل أونيدا، وهي امرأة عمرها 26 عاما من هندوراس، قالت لنا إنه لحماية الناس من الجريمة، فإن مجتمعها "يحتاج حقا إلى مزيد من رجال الشرطة، ولكن قبل كل شيء إلى مزيد من الوظائف وفرص العمل." أمَّا دانغور، وهي أم في الهند، قالت لنا إنه كي تتمكن من الحفاظ على صحة أطفالها، فإنها تحتاج إلى حي نظيف وهواء نظيف. وهؤلاء الناس لا يريدون مُجرَّد الهروب من براثن الفقر. لكنهم يريدون بناء الرخاء وتحقيق كل أبعاده، بما فيها دخول أعلى وصحة جيدة وتعليم جيد. وهم يريدون العدالة والإنصاف. لأنه حيثما يوجد الفقر وعدم المساواة، غالبا ما يسود الظلم.
وقد شاهدت بأم عيني كيف يعرّض الفقر الناس للعنف المادي والمعنوي. وهو أمر ينتقص من إنسانيتنا جميعا. لماذا نتغاضى عن ذلك؟
وشاهدت أيضا كيف يمتلك المهمشون عزيمة استثنائية للدفاع عن كرامتهم. فلماذا لا تضاهي عزيمتنا للقضاء على الفقر عزيمتهم؟
ومن ثمَّ يكون السؤال الذي أريد أن أتناوله هذا الصباح هو: ما المطلوب منَّا جميعا –الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمنظمات متعددة الأطراف في شتَّى أنحاء المعمورة — لمساعدة أونيدا ودانغور وأمثالهما في مختلف أرجاء العالم على بلوغ أهدافهم؟ وما الذي ستفعله مجموعة البنك الدولي للقضاء على الفقر، وبناء الرخاء المشترك؟
إنني أُدرِك جيدا أنه في هذه البيئة الصعبة قد تخبو المساندة المٌقدَّمة للتنمية في مواجهة أولويات أخرى. وكثير منكم في هذه القاعة سمع حججا تذهب إلى القول بأنه في المناخ الاقتصادي السائد حاليا لا يمكننا تحمُّل أعباء تجديد التزامنا بمساندة التنمية العالمية والوفاء بالوعود التي قطعناها من قبل.
واليوم، أقف هنا لأقدِّم لكم الحجة المضادة. واليوم، يطالب كثير من المواطنين بمزيد من الاشتمال، وقد يفقد البعض الأمل، فإنه سنحت لنا الفرصة –بل وأعتقد أن علينا المسؤولية- لبناء عهد جديد من الرخاء المشترك. ومع عيش أكثر من مليار نسمة في فقر مدقع ووجود 200 مليون عاطل، ليس هذا وقت أن يسير كل امرئ على هواه أو أن يُركِّز على مصالحه الضيقة.
ذلك لأن الكثير والكثير بات ممكنا اليوم، والكثير بات معرضا للخطر أيضا.
خلال العقد المنصرم، شهد نحو 50 بلدا ناميا – تُشكِّل معا موطنا لزهاء 4 مليارات نسمة- نمو إجمالي ناتجها المحلي في المتوسط 5 في المائة على الأقل سنويا. وبفضل هذا النمو، انخفضت مستويات الفقر بسرعة أكبر من أي وقت مضى، وتحقَّق الهدف الأول من الأهداف الإنمائية للألفية، وهو خفض معدل الفقر السائد عام 1990 بمقدار النصف بحلول عام 2015، قبل الموعد المقرر بنحو خمسة أعوام.
وفي أفريقيا، لاحت فرص جديدة، كما رأيت بنفسي حينما زرت كوت ديفوار وجنوب أفريقيا الشهر الماضي. وفي مركز للتدريب على الوظائف يسانده البنك الدولي في كوت ديفوار، قابلت مقاتلين سابقين ألقوا أسلحتهم، ويمسكون مفكات وأدوات لقطع الأسلاك، وهم يتعلَّمون ليصبحوا فنيين كهربائيين. هذا النوع من التفاؤل ينتقل سريعا من شخص لآخر، وينتشر حاليا في أنحاء القارة.
كنَّا في وقت من الأوقات نظن أن البلدان الصغيرة الحبيسة التي لا سواحل لها لا يمكنها تحقيق نمو يتسم بالاستدامة، لكن النمو الاقتصادي في رواندا الذي بلغ معدله نحو 8 في المائة سنويا خلال العقد الماضي اثبت خطأ هذا الظن. وكنا نظن أنه يستحيل إقامة أنظمة لتقديم الرعاية الصحية في البيئات المنكوبة بالصراعات، لكن التوسع الكبير في تقديم الخدمات الأساسية للرعاية الصحية في أفغانستان خلال العقد الماضي أثبت خطأ هذا الظن. وكنا نظن أن البلدان التي تشهد تفاوتات هيكلية عميقة لا يمكنها أبدا التصدي لاستمرار عدم المساواة، لكن نجاح البرازيل في خفض تصنيفها وفق معامل جيني بمقدار 5 نقاط مئوية يفنِّد هذا الظن.
وما تعلَّمناه هو أنه لاشيء مُقدَّر مسبقا، فكل اقتصاد لديه إمكانيات وقدرات والسؤال هو كيف يمكننا إطلاق العنان لهذه الإمكانيات والقدرات؟ وحينما كنت طفلا هاجرت إلى الولايات المتحدة من كوريا الجنوبية، وهو بلد كان يوصف آنذاك بأنه "حالة ميئوس منها. وتذكرنا قصة النجاح الاقتصادي لكوريا بأنه لا ينبغي ثانية، مهما كانت درجة تشاؤمنا أو تجاسرنا، أن نصم أي بلد بوصف كهذا.
وعندما ننظر إلى العقد الماضي من النجاح وشدة المخاطر التي يواجهها الاقتصاد العالمي حاليا، ماذا يمكننا أن نقول عن آفاق مستقبلنا هنا في أواخر عام 2012؟ إننا نواجه ثلاثة سيناريوهات محتملة على الأمد المتوسط.
السيناريو الأول هو أن تواصل معظم البلدان المضي في مسارات نموها الحالية. وفي ظل هذا السيناريو، من المحتمل أن يستمر معدل انتشار الفقر على مستوى العالم في التناقص بمقدار نقطة مئوية واحدة كل عام كما حدث في الماضي القريب. وعلى مدى العقدين الماضيين شهدت بلدان العالم النامية انخفاض معدل الفقر الإجمالي فيها بمقدار النصف، وإذا حافظت على هذا الزخم، فإن معدل الفقر سينخفض ثانية بمقدار النصف خلال السنوات العشر القادمة. وسيزيد عدد من ينضمون إلى الطبقة المتوسطة زيادة كبيرة. ولا شك أن هذا تقدُّم رائع. لكنه ليس جيدا بما فيه الكفاية. فبوسعنا أن نفعل ما هو أفضل.
أما السيناريو الثاني فهو أكثر تشاؤما، تتسبب فيه الأزمات المتصاعدة في الاقتصاد العالمي في خروج البلدان النامية عن مسارات نموها الذي تحقق في الآونة الأخيرة. فارتفاع مستويات عدم المساواة وتزايدها يؤدي إلى ضياع الفرص الاقتصادية على الناس، ويضعف آفاق النمو على الأمد الطويل. وفي ظل هذا السيناريو، ستتباطأ خطى التقدم في جهود مكافحة الفقر على مستوى العالم، وربما تصاب بانتكاسة. ويجب أن نتفادى هذه النتيجة.
والسيناريو الثالث هو الذي يبعث همتي ويثير حماستي، ويجعلني أصحو وأذهب إلى العمل كل صباح. هذا هو الطريق الذي جئنا معا لثني قوس التاريخ فيه وتسريع خطى التقدم المحرز. ونساعد مزيدا من الناس على المشاركة في التنمية والاستفادة منها. ونقوم بزيادة المرونة والقدرة على التكيُّف حتى يتمتع المزيد من الناس بالأمن الاقتصادي. وإذا كنا مستعدين لبذل هذا الجهد، فإنه يمكننا القضاء على الفقر المدقع. فهذا الهدف ليس صعب المنال، لكنه قابل للتحقيق. ومعا يمكننا بلوغ هذه الغاية.
فماذا يتطلب هذا؟
ما المطلوب للوصول إلى هذه الغاية؟
يمر الاقتصاد العالمي اليوم بمنعطف حرج. وما يجمع أعضاء البنك الدولي على اختلافهم هو أننا جميعا نبحث عن حلول جديدة لتأمين مستقبل أكثر رخاء وأكثر استدامة وأكثر اشتمالا.
وكما نعلم جميعا، فإن البلدان مرتفعة الدخل تبحث عن حلول جديدة لخلق الوظائف، وحفز النمو، ومعاودة تحقيق استدامة ماليتها العامة. ونجاحها في هذا المسعى مهم لنا جميعا، لأن الأزمات الاقتصادية في البلدان المتقدمة، كما رأينا جميعا، قد تنتشر بسرعة إلى مختلف أنحاء العالم. ولأن ارتباط البلدان المتقدمة بتقديم مساعدات خارجية ما زال أمرا بالغ الأهمية لحث خطى أجندتنا المشتركة للتنمية.
إن مجموعة البنك الدولي تملك خبرة طويلة في تصميم برامج أكثر فاعلية للحماية الاجتماعية، وتحسين مناخ الاستثمار، وتحديد الاستثمارات العامة المشجعة للنمو. وبصفتنا بنكا عالميا، فإننا نقف على أهبة الاستعداد لتقديم معارفنا ومساعداتنا الفنية حيثما يطلب منَّا ذلك، بما في ذلك في البلدان مرتفعة الدخل التي تشهد إصلاحات اقتصادية.
والبلدان متوسطة الدخل تبحث عن حلول جديدة لمجموعة مختلفة من التحديات. فكثير من هذه البلدان سجلت نموا اقتصاديا سريعا في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، فإن الإستراتيجيات التي استخدمتها في تحقيق الازدهار في الماضي، كما ندرك جميعا، قد لا تكون ملائمة للتصدي للتحديات المقبلة، والتي تشمل: ضمان مشاركة الفقراء في عملية النمو، وسد جوانب النقص في البنية التحتية والطاقة، وسن الجيل الثاني من إصلاحات السياسات، ودمج أدوارها في النظام العالمي بوصفهم أصحاب مصلحة مباشرة راشدين يتميزون بالكرم والسخاء.
وتضطلع مجموعة البنك الدولي في الوقت الراهن بالفعل بعملية تحديث تهدف إلى تلبية طلبات البلدان متوسطة الدخل المتعاملة معها، لكنني أرى أن بمقدورها القيام بما هو أفضل من ذلك. إذ لابد أن نصبح أكثر سرعة وأكثر إبداعا وابتكارا وأكثر مرونة. وإننا نقوم بإعداد أدوات ومنتجات متنوعة جديدة تناسب احتياجاتها، مثل إقراض الحكومات دون الوطنية والخدمات المالية في مجال إدارة الأصول والتحوط من المخاطر. ونظرا لأن الاقتصادات الصاعدة تضطلع بدور متزايد في الاقتصاد العالمي، فإنني شخصيا ملتزم بضمان أن يكون لها صوت قوي مسموع داخل مؤسستنا.
وفي الوقت نفسه، فإن البلدان منخفضة الدخل تبحث عن حلول جديدة لتسريع خطى النمو، وزيادة قدرتها على المنافسة، وانتشال مواطنيها من براثن الفقر. وهي ترى فرصة لأن تصبح الجيل الجديد من الأسواق الصاعدة عن طريق بناء مؤسسات أكثر خضوعا للمساءلة، وظهور قطاعات خاصة أكثر حيوية ونشاطا. ففي أفريقيا، على سبيل المثال، يكتشف العديد من البلدان موارد طبيعية جديدة يمكن، إذا أُحسن استغلالها وإدارتها، أن تحدث تحولات فيها.
وستبذل مجموعة البنك الدولي المزيد من الجهود لمساعدة البلدان منخفضة الدخل في تحقيق هذه الرؤية. ومن خلال شركة إدارة الأصول التابعة لمؤسسة التمويل الدولية، التي تمثل اليابان أحد كبار المساهمين فيها، نقوم حاليا بإطلاق صناديق استثمار جديدة للقطاع الخاص في الأسواق عالية المخاطر أو الجديدة في التعامل (frontier markets). وسنسعى إلى تعزيز العملية السابعة عشرة لتجديد موارد المؤسسة الدولية للتنمية، وهى من أهم أولوياتي.
وكما أعرف من تجربتي في هايتي، فإن الدول الهشة تبحث عن حلول للخلاص من أوضاع الهشاشة. والبلدان التي تهوي في غمار الحرب الأهلية يستغرق تعافيها في العادة عقدا من الزمان أو فترة أطول من ذلك. وتبين لنا أمثلة لبلدان كموزامبيق ورواندا وأوغندا، التي نجحت في النجاة من شرك الصراع، أن هناك ثلاثة أشياء كانت ذات أهمية حاسمة وهي: الأمن والعدالة والوظائف.
وسيتعين على مجموعة البنك الدولي أن تمضي قدما إلى الأمام، مستشعرة الضرورة الملحة أكثر من أي وقت مضى لمساعدة الدول الهشة. ولهذا السبب، فنحن نقوم بإصلاح أنظمتنا وسياساتنا الخاصة بالعمليات لتستجيب بسرعة وبشكل حاسم للمخاطر حينما تقع على أرض الواقع. ونتيح للبلدان المتعاملة معنا وشركائنا الوصول مباشرة إلى المعارف التي سيكون لها أثر واضح. ونحن ملتزمون بالحرص على أن يكون لدينا موظفون أكفاء من ذوي الخبرة والدراية في أشد الأماكن صعوبة حيث تشتد الحاجة إليهم.
وتبحث بلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الآن، وهي تمر بمنعطف خطير من تاريخها، عن طرق لوضع نماذج سياسية واقتصادية تتسم بقدر أكبر من الاشتمال والمشاركة. إن التحوُّلات التي تمر بها هذه البلدان تُذكِّرنا بأن عملية التنمية يجب أن تتسم بالاشتمال والشفافية، وأن تتيح الفرص للشباب ولاسيما الشابات.
وإننا في مجموعة البنك الدولي نستوعب هذا الدرس، وإحدى أولوياتي تتمثل في تعزيز تعاوننا مع المنطقة وإعادة النظر في نُهُجنا عند الضرورة.
ومع سعي مختلف اقتصادات العالم للتصدي للتحديات التي تواجهها، يجب علينا القيام بذلك على نحو مستدام لا يستنفد مواردنا الطبيعية المشتركة. وبصفتي متخصصا مُدرَّبا في مجال العلوم، فإني أعرف أننا لا يمكننا تجاهل الشواهد العلمية على تغير المناخ، وأنه يجب علينا الاضطلاع بالمهمة الملحة لحماية بيئتنا. وإذا لم نفعل ذلك، فإننا نخاطر بخلق بيئة مادية تُقوِّض التنمية وتؤدي إلى انتكاسها.
ولذلك، سنعمل في مجموعة البنك الدولي بمزيد من الجهد لتشجيع الاستثمارات في سلع النفع العام العالمية والتنمية المستدامة. ونتصدَّر حاليا الدعوة إلى حساب رأس المال الطبيعي في الساحة الدولية لتشجيع البلدان على فهم مواردها الطبيعية وإدارتها على نحو أفضل. ونحن نساعد البلدان على وضع إستراتيجيات للنمو الأخضر المراعي للبيئة. وسنولي مسألة الحكم الرشيد أولوية عالية باعتبارها ركيزة لعملية التنمية، وسنواصل مكافحة الفساد على نحو أكثر قوة.
وما اتضح لي بجلاء هو أن هذا العالم الذي يشهد تحوُّلات مهمة يحتاج إلى أن تكون مجموعة البنك الدولي قوية. وأن تتيح، من خلال ما تقدمه من قروض ومعارف وقدرتها على جمع الأطراف، حلولا إنمائية متكاملة من أجل التصدي للتحديات التي نواجهها اليوم وغدا.
بناء "بنك للحلول"
ولذلك، ما هو مستقبل مجموعة البنك الدولي في هذا العالم المتغير؟ خلال الأشهر الثلاثة الماضية، كان من أهم أولوياتي مقابلة أكبر عدد ممكن من موظفي البنك الدولي. وهم يمثلون أعظم أصول البنك وأكثرها أهمية. وكان من الأسئلة التي وجهتها إلى موظفي البنك، متى وجدتم أن مجموعة البنك في أفضل أحوالها؟
وسمعت كيف بنينا شراكات مع مانحين آخرين كي نتمكن من تعبئة 1.3 مليار دولار بسرعة لمساعدة البلدان الواقعة في منطقة القرن الأفريقي التي تعاني من موجة جفاف حادة.
وسمعتُ كيف أننا تعاونَّا مع الحكومة الهندية لإطلاق برنامج رائد للتأمين على المحاصيل، مما ساعد ملايين من المزارعين على التخفيف من مخاطر تقلبات المناخ.
وسمعت عن ضمانة تقدمها الوكالة الدولية لضمان الاستثمار، وهي ذراع البنك الدولي للتأمين ضد المخاطر السياسية، تساند أول مشروع لطاقة حرارة باطن الأرض بتمويل خاص في أفريقيا، مما أدى إلى اجتذاب مستثمرين إلى هذه السوق غير المُطروقة والواعدة.
وتكشف هذه النجاحات عن مؤسسة تتميز بالمرونة والابتكار؛ مؤسسة تخوض أصعب الظروف وتعمل لإحداث تحوُّلات مهمة؛ مؤسسة متواضعة تحشد خبراتها الفنية لتحقيق نتائج على نطاق واسع.
والسؤال الطبيعي الآن هو: ما المطلوب كي تكون مجموعة البنك الدولي في أفضل أحوالها في كل مشروع ومع كل بلد متعامل معها وفي كل يوم؟
والإجابة في اعتقادي هي أنه يجب علينا تحديد هوية إستراتيجية جديدة لأنفسنا. ويجب أن نتطور من كوننا بنكا "للمعارف" إلى بنك "للحلول"، وأن نساعد البلدان المتعاملة معنا على تطبيق حلول غير عقائدية تستند إلى الشواهد للتصدي لتحديات التنمية.
دعوني أشرح لكم بعض النقاط بوضوح: حينما أقول إننا سنصبح بنكا للحلول، فإنني لا أعني أن لدينا حلولا جاهزة لكل مشكلة من مشكلات التنمية. فنحن لسنا كذلك، وليست هذه غايتنا.
ولكننا كبنك للحلول سنعمل مع شركائنا والبلدان المتعاملة معنا والمجتمعات المحلية للتعلم وللتشجيع على الاستكشاف. لقد علَّمتني عقود من العمل في مجال التنمية أن أفضل الحلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية يكمن في الغالب في أيدي الأفراد والمجتمعات المحلية التي تواجه هذه التحديات في حياتها اليومية. فهم أعظم المعلمين لي. ولذا يجب أن نستمع إلى أفكارهم ونتصرف على أساسها.
وكي نكون بنكا فاعلا للحلول، لابد أن نسعى وراء إجابات خارج جدران مؤسستنا. واليوم، تتوفر المعرفة في كل مكان، فهي تتدفق من أصحاب مشاريع العمل الحر في دلهي إلى المواطنين في ريف المكسيك، وإلى المجتمع المدني في لاغوس، وإلى واضعي السياسات في سراييفو. ومجموعة البنك الدولي بما لديها من إمكانيات للتواصل العالمي في وضع مثالي للتواصل مع العديد من أصحاب المصلحة المباشرة الرئيسيين من شتَّى أنحاء العالم وجمعهم، والتوسط في تبادل المعارف الذي لا يقف عند الحدود المؤسسية.
ولتحقيق ذلك، سنقوم بتقوية شراكاتنا وتوسيع نطاقها. ويعني ذلك تعزيز التعاون القائم مع صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة وبنوك التنمية الإقليمية. وهو يتطلَّب بناء تحالفات جديدة مع منظمات المجتمع المدني الرائدة والمؤسسات والمعاهد العلمية والقطاع الخاص لحث الخطى نحو بلوغ الأهداف المشتركة.
وينبغي أن يكون بنك الحلول أكثر تركيزا من أي وقت مضى على التنفيذ وتحقيق النتائج. وفي وقت يتسم بضيق الموارد وتتخلله تحديات جسام، فإن هذا هو ما يطلبه المانحون والبلدان المتعاملة معنا. وتملك بعض البلدان المتعاملة معنا موارد مالية متزايدة تحت تصرفها. ولكن كل المتعاملين معنا يواجهون صعوبة في تحقيق النتائج – في التصميم والتطبيق وإظهار النتائج.
لأن معظم حالات الفشل تحدث في التنفيذ وتحقيق النتائج. حينما تصدر حكومة قانونا قويا لمكافحة الفساد، لكن الممارسة الفعلية لا يطرأ عليها تغيُّر يذكر، فهذا فشل في التنفيذ. أو حينما يقوم بلد ما باستثمارات كبيرة في التعليم الابتدائي، ولكنه لا يستطيع إلحاق جميع أطفاله بالمدارس، أو ضمان أنهم يتعلَّمون فهذا فشل في التنفيذ أيضا.
هذه هي الساحة التالية لمجموعة البنك الدولي - ومن شأنها المساعدة في النهوض "بعلم تحقيق النتائج". ونظرا لأننا نعلم أن التنفيذ وتحقيق النتائج ليس بالأمر الهيِّن – فالأمر ليس سهلا مثلما نقول "هذا يصلح وهذا لا يصلح." ويتطلّب التنفيذ الفاعل وتحقيق النتائج بالطبع معرفة جيدة بالسياق المعني، ويقتضي تعديلات متواصلة، واستعدادا لتحمل المخاطر، والتركيز بلا هوادة على تفاصيل التنفيذ. وإحدى المزايا النسبية الأساسية لمجموعة البنك الدولي أنها أقامت علاقات شراكة مع المجتمعات المحلية وواضعي السياسات في كل البلدان النامية وفي كل قطاع تقريبا، ولكي تصبح بنكا للحلول فإنه يتعيَّن عليها أن تستخلص الدروس من هذه التجارب والاستفادة منها على نحو منتظم.
ويجب علينا لنكون بنكا للحلول أن نتحلى بالأمانة والصدق بشأن مواطن نجاحنا وفشلنا. ويمكننا بل ويجب علينا أن نتعلم من النجاح والفشل على السواء.
وسيحدث تحوّلنا إلى بنك للحلول تدريجيا بمرور الوقت، وما زلنا نعمل لتحديد الفرص لتفعيل هذا التحوُّل. لكنني اليوم أريد أن أُسلِّط الضوء على أربعة إجراءات مبكرة نتابع العمل لتنفيذها من أجل تسريع هذه العملية.
أولا، سنضع معيارا واضحا وقابلا للقياس لأهدافنا؛ وسيجبرنا ذلك على إلقاء نظرة فاحصة على كل شيء نفعله، وسيدفعنا إلى أن يتسم عملنا بالفاعلية قدر الإمكان. ورسالة مجموعة البنك الدولي هي القضاء على الفقر وبناء الرخاء المشترك. ولذلك، فقد طلبت من جهاز إدارة البنك تحديد النتيجة النهائية في شكل غايتين طموحتين لهذين الهدفين.
وثانيا، نعمل حاليا على تعزيز طرق التنفيذ ونتائج عملنا. وحتى يتسنى لنا ذلك، سنقوم بتغيير هيكل الحوافز من أجل مكافأة القائمين على التنفيذ و"المصلحين": من يحققون النتائج للبلدان المتعاملة مع البنك على أرض الواقع. وينبغي ألا يستغرق المشروع سنتين للتحول من مرحلة المفاهيم والتصورات إلى مرحلة التنفيذ. ونريد محاسبتنا لا على الإجراءات بل على النتائج. ولهذا سأعمل مع مجلس محافظي البنك الدولي لترشيد إجراءاته، وتبسيط عملياته وتقليص الوقت اللازم لإعداد المشاريع.
ثالثا، سنعمل بسرعة على تحسين قدرتنا على تزويد البلدان المتعاملة معنا بالحلول المتكاملة كي تحقق أكبر أثر ممكن. وسوف يمكننا تعزيز ميزتنا النسبية بصفتنا المؤسسة الإنمائية الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تساند بدرجة معقولة القطاعين العام والخاص، وتوفير القدرة على الوصول إلى موارد معرفية استثنائية، وعرض أدوات للتأمين ضد المخاطر من أجل تحفيز الاستثمارات. ولذلك، فقد طلبت من جهاز إدارة البنك وضع خطة لتحقيق قدر أكبر من التآزر والتنسيق بين فروع مجموعة البنك الدولي، بغرض الاقتصاد في النفقات وتحسين فاعلية عملياتها.
رابعا، يجب أن نواصل الاستثمار في أدوات البيانات والأدوات التحليلية، والبناء على ما حققته مبادرة البيانات المفتوحة من نجاح. فللبيانات أهمية حاسمة في تحديد الأولويات ووضع سياسات سليمة وتتبع النتائج. ومع ذلك، فإن الكثير من البلدان تعاني من ضعف قدراتها الإحصائية وتفتقر إلى بيانات محدثة يعتمد عليها للاقتصاد وأوضاع الفقر. ولهذا فإننا سنعمل مع شركائنا لضمان أن تتاح لكل البلدان النامية تقريبا بيانات دقيقة ومحكمة التوقيت، وسنقدم تقارير سنويا عما تحقق من تقدم في مكافحة الفقر وبناء الرخاء المشترك.
وحينما نجتمع مرة أخرى بعد ستة أشهر سأقدِّم لكم تقريرا عما أُحرز من تقدم فيما نفعله وأحيطكم علما بما أُنجز وما يجب أن نسعى فيه جاهدين. وأرجو أن تحاسبونا أنتم ومديروكم التنفيذيون طوال هذه العملية لضمان أن نحدِّد أهدافا طموحة لأنفسنا ونعبأ الموارد لبلوغها.
الخاتمة
اسمحوا لي أن أختم كلمتي بأن مجموعة البنك الدولي في الثمانية والستين عاما التي انقضت منذ تأسيسها تتطور باستمرار مع تغيُّر العالم. لقد كانت في بادئ الأمر "بنكا للتعمير" يركز على إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وأصبحت في عهد روبرت ماكنمارا "بنك إقراض" يقدم التمويل بهدف الحد من الفقر في البلدان النامية. وفي عهد جيم وولفنسون، تحوَّل البنك مرة أخرى إلى "بنك للمعرفة" يعمل على توسيع فهمه لعملية التنمية ودوره في تشجيع التنمية الشاملة للجميع. ومنذ وقت قريب في عهد روبرت زوليك عززت مجموعة البنك انفتاحها وشفافيتها. إنني أدين لمن سبقوني في هذا المنصب على فهمهم لعالمهم المتغير وتقدمهم بمجموعة البنك الدولي إلى الأمام.
وأعتقد أنه حان الوقت أن نكتب الفصل التالي من تطوُّرنا: حان الوقت أن نصبح بنكا "للحلول". يجب علينا أن نستمع للبلدان والمستفيدين من مشاريعنا ونتعلم منهم وندخل في شراكة معهم لبناء الحلول على أساس نهج من القاعدة إلى القمة. وهكذا نزيد من أهميتنا ومن قيمتنا في الاقتصاد العالمي اليوم وغدا.
إننا في مجموعة البنك الدولي غالبا ما نتحدَّث عن الحلم بعالم خال من الفقر وهو الشعار الذي يزدان به مدخل مقر البنك. لقد حان الوقت أن ننتقل من الحلم بعالم خال من الفقر إلى تحقيق هذا الحلم؛ حان الوقت لثني قوس التاريخ. ويمكننا تحقيق ذلك، بل يجب أن نعمل وسنعمل لتحقيقه، من خلال تضامن عالمي يدعمه سعي حثيث بلا هوادة من أجل القضاء على الفقر وبناء الرخاء المشترك.
شكرا لكم.