السيد رئيس مجلس النواب، السادة أعضاء البرلمان، السيد الأمين العام، الضيوف الكرام.
إنه لشرف عظيم أن أتحدث اليكم اليوم من بيت المشرّع العظيم، حمورابي. فقد ساعد قانون حمورابي على تحويل المجتمع البابلي إلى شكل الحكم الذي يسعى العراق اليوم إلى تحقيقه – وهو حكم موحد ومزدهر، ويقوم على سيادة القانون.
ومن هذا المنبر، أقدم رسالتي بتفاؤل كبير: إن الديمقراطية تترسخ في العراق على الرغم من التحديات الهائلة التي يواجهها هذا البلد الكريم.
لقد اختار العراق طريق الشراكة السياسية - وهو قرار نتجت عنه تحديات صعبة، ولكنه يبشر بالكثير من الخير. كما أنه يجعل المناخ السياسي أكثر صخبا، فهو يتطلب التوافق بين مختلف فئات الشعب العراقي وتنوعه وتعدديته، وخلق مناخ عام يمنح للجميع حرية التعبير عن الرأي. كما أنه يتطلب تنازلات سياسية لبناء تحالفات واسعة وضرورية لتحقيق الأهداف الوطنية. وبقدر ما تبدو مشاركة الشعب العراقي في العملية السياسية، بمختلف فئاته، معقدة، وبقدر ما هي صعبة، فهي العنصر الأهم في تثبيت الاستقرار المطلوب على المدى الطويل. أمّا هذه التحديات، فهي في الواقع، دليل قوة.
ويدل تاريخ منطقة المشرق على صِحة هذا الأمر، حيث طالما شهدت المجتمعات التوافقية استقراراً وازدهاراً. إن التنوع المجتمعي الذي يُغني المنطقة، يعزز من قدرات المؤسسات العامة ويساهم في خدمة المصلحة العامة. ومن خلال الحفاظ على التوازن بين السلطة المركزية وبين الحكم الذاتي المحلي، عمل القادة على ترسيخ الشرعية واكتساب ثقة الشعب. وعزز الاستثمار العام في أنظمة الإدارة الرشيدة والحوكمة والبنية التحتية الفاعلة التنمية الاجتماعية والتبادلات الاقتصادية.
وفي المقابل، فشلت الأنظمة التي رسخت الانقسام - حيث مارست المحسوبيات والمحاصصات الطائفية والتمييز على أساس الهوية. وسقطت الأسر الحاكمة التي توسعت في مركزية السلطة، وأضعفت المجتمعات المحلية والبلديات. وحيثما غابت المساواة في عملية فرض الضرائب وتوزيع الموارد، استفحلت المظالم، وخلقت تحديات إضافية أمام السلطة المركزية.
في الأشهر الأخيرة، رسخ البرلمان العراقي هذه الوقائع في عمله مع الحكومة لمعالجة التحديات الهائلة، بما في ذلك الصراع والأزمة الاقتصادية. على سبيل المثال، استخدمت القوات التي تحارب داعش مهارات وقوة جميع فئات الشعب العراقي لاستعادة السيطرة على الاراضي الوطنية. ويظهر هذا النجاح قوة الشعب العراقي عندما يتحد لمواجهة قضية وطنية مشتركة.
لقد حققتم أيضاً توازناً فاعلا بين السلطة المركزية والحكم الذاتي المحلي، ودعمتم الإجراءات الطارئة لتحسين نظام الإدارة المحلية وكسب ثقة المواطنين في المناطق المحررة. وأتاحت موافقتكم على قرض بمبلغ 350 مليون دولار أميركي من البنك الدولي لدعم السلطات المحلية إمكانية المساعدة في استعادة البنية التحتية الأساسية، والخدمات العامة، للمواطنين العراقيين في المناطق التي تم تحريرها من سيطرة داعش. وعملنا المشترك في تقييم حاجات المناطق والمدن والبلديات الأكثر تأثراً بالنزاع والتهجير خير دليل على مدى أهمية التفاعل بين الحوكمة المحلية والقيادة الاتحادية. ويبقى دعم السلطات المركزية لعمل المجتمعات المحلية والبلديات من أهم العناصر التي تؤدي إلى تلبية احتياجات الشعب العراقي وتعزيز شرعية الدولة.
وفي الوقت ذاته، ساعدت الاستثمارات في مجال الإصلاحات، على المستوى الاتحادي على تخفيف آثار هبوط أسعار النفط وتحسين نظام الإدارة الرشيدة والحوكمة، ممَا وضع الحجر الأساس للتنمية والازدهار. إن ما تبذلونه من جهود لتدعيم نظام الحماية الاجتماعية يعني تدفق المزيد من الموارد العامة للشرائح الأكثر عرضةً للمعاناة والخطر. وسوف يؤدي إنهاء احتكار المصارف العامة وتحفيز دور القطاع الخاص في مجال توليد الكهرباء إلى زيادة القدرة التنافسية، وإلى تعزيز قوة الاقتصاد وتنوعه. لقد قدمت مجموعة البنك الدولي 1.2 مليار دولار أميركي لدعم هذا الجهد الإصلاحي – وهو أكبر تمويل مباشر قدمناه حتى يومنا هذا إلى بلد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وفي موازاة ذلك الجهد المبذول في مجال الأنظمة الإدارية والحوكمة الرشيدة، لقد باشرتم أيضاً في تفعيل المزيد من الاستثمارات في البنى التحتية، مما أوجد فرصاً كبيرة للاستفادة من إمكانات الموقع الجغرافي الذي يتمتع به العراق. فالعراق بلد يقع وسط منطقة استراتيجية، حيث يمثل التكامل الاقتصادي مفتاحا للسلام والازدهار في المستقبل. وقد وافق هذا البرلمان، قبل عامين، على عملية طموحة وبعيدة الأثر، واستراتيجية تهدف إلى انفتاح العراق على محيطه الإقليمي. ويمثل إصلاح وإعادة بناء الطريق رقم 1 في الجنوب، وعبور الحدود من الشمال إلى تركيا، جسورا رئيسة لمستقبل العراق باعتباره مركزا محورياً في قطاع التجارة. إننا في صدد التخطيط لتوسيع تلك الجهود، التي هي نتيجة الشراكة الوثيقة بين الحكومة والبنك الدولي والبنك الإسلامي للتنمية، فهي خير دليل على الإنجازات التي يمكننا تحقيقها لمصلحة الشعب العراقي من خلال العمل المشترك.
لنتأمل معاً ما يمكن أن يعنيه المزيد من التقدم في هذه المجالات لضمان مستقبل أفضل. إن العراق، الذي يبلغ إجمالي ناتجه المحلي نحو 200 مليار دولار أميركي سنوياً، يمثل أحد أكبر الاقتصادات في منطقة الشرق الأوسط، حتى بعد سنوات من الصراع. إن موقع العراق المركزي وحدوده المتعددة لهما تداعيات تحويلية على المنطقة بأسرها، فسوف ينعكس تأثير نموه واستقراره وازدهاره على مئات الملايين من البشر.
وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت البنك الدولي يستثمر بقوة في مساعدة العراقيين على بناء مسار نحو غد أفضل. كما أنه السبب في أن العراق سيحتل مكانة بارزة في خططنا لاستثمار 20 مليار دولار أميركي في تنمية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحلول عام 2021 – وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف المبلغ الذي تم استثماره فيها خلال السنوات الخمس الماضية.
لكن تحقيق الاستفادة القصوى من هذه الفرصة يعني أن على العراق الاستمرار في بناء أسس مجتمع شامل يضم الجميع، ونحن نرى أن هناك ثلاث خطوات حاسمة في هذا الصدد:
أولاً: إذا ما ألقينا نظرة جديدة إلى المحاور الاجتماعية والثقافية والجغرافية التقليدية في العراق، نعتبر أن الوسيلة الأنسب لحماية تماسك البلاد والحفاظ عليها، هي من خلال متابعة العمل الذي بدأ به أسلافكم– أي تمكين المجتمعات المحلية وتعزيز قدراتها، بما في ذلك البلديات.
ويمكن للبنك الدولي المساعدة في دفع هذه الجهود إلى آفاق جديدة. لقد اقترحنا استخدام المساعدة المالية لمكافأة تلك السلطات المحلية التي يمكن أن تثبت قدرتها على بناء نظام شامل للإدارة الرشيدة والحوكمة ممّا يضمن حقوق الجميع ويقدم خدمات عامة عالية الجودة. ويهدف هذا التمويل إلى تعزيز كفاءة البلديات على المستوى التقني ودعم النجاعة.
ثانياً، لابد أن يقوم العراق بتنويع أنشطته الاقتصادية. فمفتاح النجاح هو خلق حوافز للقطاع الخاص للاستثمار فيه. ومن شأن ذلك أن يطلق العنان لإبداع الشعب العراقي وعبقريته، ممّا سيساعد العراقيين على إنتاج خدمات وأدوات متطورة. أنتم، ممثلو الشعب، لديكم القدرة على تبني القوانين التي من شأنها أن تفتح الباب أمام رواد الأعمال الشباب من أصحاب المشاريع والابتكارات، تلك الفئات المستعدة لخوض المخاطر والدخول في مشاريع جديدة.
ثالثاً، لابد أن يعيد العراق ترتيب أوضاعه الاقتصادية الداخلية، والحد من هدر الموارد، وتعزيز المساءلة، وتنفيذ الإصلاحات الضرورية والهامة. ففي قطاع الطاقة، على سبيل المثال، يجب أن تُنفذ الاصلاحات على مستوى معالجة الدعم غير المجدي المخصص لهذا القطاع، والذي يساهم في العجزعن تزويد التيار الكربائي بصفة مستمرة. وعندما تحل التحويلات النقدية، التي تستهدف الفقراء والمحتاجين، محل الدعم، سوف يتحسن مستوى الكفاءة والإنصاف. كما من الضروري إصلاح المؤسسات العامة التي تعيق من نمو القطاع الخاص، وتحفيز المؤسسات الناشئة على الإسهام في النمو الاقتصادي. ويؤدي تعزيز إشراك المواطنين في الشأن العام إلى مزيد من التدقيق على الإنفاق الحكومي، ومكافحة الفساد، وترسيخ الشفافية، وتعزيز شرعية القطاع العام في العراق. نحن واثقون من أن العراق سوف يحصل على الدعم المطلوب لتقليص العبء المالي الناتج عن هبوط أسعار النفط، وذلك من خلال التأكيد على التزامه بتلك الإصلاحات الجدية.
أصحاب السعادة، أعضاء البرلمان – إن الشعب العراقي بحاجة إليكم. وباعتباركم قادته المنتخبين ديمقراطيا، فإن عملكم بالغ الأهمية لمساعدته على تحقيق كامل طاقاته.
لقد كان العراق، على مدى قرون، مثالا للتنمية البشرية في العالم العربي. وجذبت الجامعات العراقية طلاباً من جميع أنحاء العالم؛ حيث قدمت مستويات عالية من التعليم. ويكمن كل الأمل في أن يلعب العراق هذا الدور مرة أخرى.
ومن أجل تحقيق تلك الأهداف، ينبغي تشجيع الفرص الفردية من خلال توفير خدمات عامة ذات نوعية، ومناخ عمل منفتح وتنافسي. ويحتاج ذلك إلى التأكد من أن جميع العراقيين يستفيدون من عائدات النفط. حتى في ظل مواجهة الانتكاسات والتحديات الهائلة، فإن الأمل الوحيد هو الاعتماد على قوة الشعب وصموده، من خلال مؤسسات قوية تضم الجميع وقادرة على الاستمرارية.
اسمحوا لي، في نهاية كلمتي، أن أتوجه إلى الشعب العراقي الذي صمد في وجه الحرب والعنف والنزاع، والذي أوضح للعالم معنى المقاومة، والصمود، والشجاعة، والنبل، والشهامة.
إن للعراق تاريخاً عميقاً وغنياً يمكنه أن يبني عليه مستقبلاً مشرقاً ومزدهراً. وأنتم، ممثلو هذا الشعب، قد أخذتم على عاتقكم مسؤولية قيادة هذا البلد العظيم نحو ذلك المستقبل.
ومن هذا المنبر، أعلن اليوم التزامنا كالتالي: سوف يقف البنك الدولي إلى جانبكم، وإلى جانب كل مواطن عراقي، في كل خطوة من هذه الرحلة الطويلة نحو العدالة والتنمية والسلام والازدهار المشترك.
أشكركم على هذه الفرصة التي أتحتموها إليّ لأكون معكم اليوم. شكرا جزيلا.