ونحن كذلك مستمرون في عملنا لمعالجة أزمة التشرُّد والنزوح العالمية بتخصيص ملياري دولار في إطار العملية الثامنة عشرة لتجديد موارد المؤسسة الدولية للتنمية – وهي صندوقنا المعني بمساعدة الفئات الأشد فقرا – من أجل مساندة البلدان منخفضة الدخل التي تستضيف اللاجئين.
وللمرة الأولى، نُقدِّم تمويلا مُيسَّراً بأقل من سعر فائدة السوق لأي بلد متوسط الدخل يستضيف اللاجئين من خلال برنامجنا العالمي الجديد لتسهيلات التمويل المُيسِّر، بدءا بمساندة الأردن ولبنان اللذين يستضيفان ملايين اللاجئين السوريين.
وفي خضم هذه الأزمات ومساعدينا للتصدي لها، يمر العالم بتغيُّرات سريعة. وفي بعض الأوساط، شهدنا رفضا للعولمة، ويثور جدال حول مزايا النظام العالمي للسوق الحرة.
صحيح أن الكثير من الناس يشعرون أنهم لم يلمسوا مزايا العولمة. وتُوثِّق الدراسات الأخيرة لأسواق العمل في الولايات المتحدة وأوروبا تقلص شرائح الأيدي العاملة. ويظهر تحليل أصدرناه للتو مع صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية أن التجارة قد عادت بمنافع واسعة على الفقراء، لكن منافعها لم يشعر بها الجميع. وفي الكثير من الأماكن، توقفت دخول الطبقة المتوسطة عن النمو، وتلاشت الوظائف.
وتدور هنا الآن في المملكة المتحدة مناقشات بشأن هذه المسألة تحديدا.
إن ضمان أن يتمتع الجميع بثمار العولمة مهمة عاجلة لكل البلدان في العالم، غنية كانت أم فقيرة. لكن للعولمة آثار أخرى، وخاصة فيما يتعلق بآمال الناس وطموحاتهم، تجعل لزاما علينا أن نعيد النظر في نهجنا بشأن التنمية.
إن أهداف التنمية المستدامة التي تبنَّتها 193 دولة في عام 2015 تنطوي على طموحات عريضة في تصورها لعالم خال من الفقر والجوع، وآمن من المخاطر مثل الكوارث البيئية والاجتماعية.
وأينما أذهب أرى تلك الطموحات بعيني رأسي.
وبصفتي رئيسا لمجموعة البنك الدولي، فقد سافرت إلى ست قارات، والتقيت أناسا من معظم البلدان الأعضاء بالبنك الدولي البالغ عددها 189 بلدا. وفي كل بلد تقريبا، أرى الناس على هواتفهم المحمولة وحواسيبهم. لقد أتاحت لهم شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أن يعرفوا على وجه الدقة كيف يعيش الآخرون. وإلى حد ما، فإن ذلك كان متاحا منذ وقت طويل من خلال الصحف والتلفزيون.
والاختلاف الآن هو أن البعض في بوتاري برواندا يمكنه أن يبعث برسالة عبر فيسبوك إلى قريب له في كيغالي، وأن يغرق في معرفة التفاصيل عن ظروف الحياة على بُعد 80 ميلا. ويستطيع الاثنان أن يتحدثا كل يوم مع صديق لهما يدرس في باريس، وأن يعرفا ظروف الحياة على بُعد 4000 ميل. وتبعا لمستوى الربط الشبكي، الذي تصادف أن يكون ممتازا في أنحاء رواندا، يمكنهم إرسال رسائل بالبريد الإلكتروني وصور ومقاطع فيديو، ولقطات مُصوَّرة، وتغريدات، ورسائل نصية وتبادلها بسرعة البرق.
وتُؤدِّي معرفتنا على وجه الدقة كيف يعيش الآخرون في بلدانهم وفي الخارج إلى تقارب الآمال والطموحات. دعوني أشرح ما أعنيه.
أثناء أسفاري، بدا لي أن الجميع يتطلعون إلى امتلاك ما يمكنهم رؤيته – لا في البيئة القريبة منهم فحسب، بل حتى إلى ما يتعرَّفون عليه من خلال ترابطهم الرقمي.
وأردتُ أن أعرف هل تُؤكِّد البيانات انطباعاتي، فسألتُ اثنين من خبرائنا في الاقتصاد بيل مالوني ولورا تشيودا أن يسبرا غور الإحصاءات والأرقام. فهل نشهد تقاربا عالميا في الآمال والطموحات؟
وباستخدام بيانات من المسوح العالمية للقيم واستطلاع غالوب العالمي، تفحَّصا آراء الناس في كافة مستويات النشاط الاقتصادي في أوضاعهم المالية اليوم وقبل خمسة عشر عاما.
وتفحَّصا الاتجاهات والمشاعر السائدة في وسائل التواصل عبر الإنترنت، وأجالا النظر ليعرفا هل عبَّر الناس عن اهتمام بالعيش في الخارج، كمُؤشِّر على ما إذا كانت طموحاتهم تستند إلى معرفة كيف يعيش الناس في بلدان أخرى.
وهذه الدراسة أولية، ولكن فيما يلي ما خلصنا إليه.
إن سعادتكم النسبية تتوقَّف على أين أنتم على مقياس توزيع الدخل. وتتوقَّف أيضا على حالة دخْلِك بالمقارنة بالقيمة المرجعية للدخل – أي مستوى الدخل الذي تقارن على أساسه ما تحصل عليه من دخل.
وحينما تفحَّصنا البيانات عن الرضا عن مستوى المعيشة، وجدنا أنه إذا زادت القيمة المرجعية لدخلك 10%، فيجب أن يزيد دخلك 5% على الأقل حتى تحافظ على المستوى نفسه من الرضا.
بل إن المفاضلة أكبر بالنسبة للشرائح الأفقر – فإذا كنت أكثر فقرا، فيتعين أن يرتفع مستوى دخلك بدرجة أكبر كي تتمكن فقط من الحفاظ على هذا المستوى من الرضا.
ووجدنا أيضا أنه مع انتشار القدرة على الوصول إلى شبكة الإنترنت على نطاق واسع، يتطلَّع الناس على نحو متزايد إلى القيمة المرجعية لدخلهم، وقد ازداد هذا الترابط بمرور الوقت.
فقد كانت الرغبة في اللحاق بالركب تتعلق بمضاهاة جيرانك في أسلوب عيشهم. لكن الأمر لم يعد يقتصر على مضاهاة من يعيشون على مقربة منك - فبسبب الترابط الشبكي، قد يكون ذلك في أي مكان آخر في العالم.
وقد اتسع نطاق الترابط في العالم النامي. وأظهرت بيانات استطلاع غالوب، أن القدرة على الوصول إلى شبكة الإنترنت في شريحة أفقر 20% زادت إلى الضعفين تقريبا من 11% في 2009 إلى 21% اليوم.
ما أهمية ذلك؟ في أفريقيا التي يعيش فيها 1.2 مليار نسمة، كان هناك 226 مليون هاتف ذكي مرتبط بشبكة الإنترنت في نهاية عام 2015. وبحلول عام 2020 سيزداد هذا الرقم ثلاثة أضعاف إلى ثلاثة أرباع مليار. ونعتقد أنه مع ازدياد أعداد الناس المرتبطين بشبكة الإنترنت ستزداد طموحاتهم وآمالهم.
ومن المهم تذكُّر أن الطموحات المتزايدة لا تتعلَّق بالأشياء التي يمتلكها الآخرون فحسب، إنما تتصل أيضا بالمطالبات بالفرص التي لا تتاح للكثيرين.
فطفلة فقيرة في كويدبو بكولومبيا يمكنها أن تتواصل بالرسائل النصية مع صديقة لها في بوغوتا وتعرف منها كل شيء عن مدرستها، وما تتعلَّمه، والوظائف التي ستُتاح لها حينما تتخرَّج. فتتأمَّل مَدْرستها، وآفاق العمل المتاحة لها وتتطلَّع إلى تحظى بالفرص نفسها.
ووجدنا أنه إذا كان الناس يشعرون بالرضا عن جودة التعليم المتاح لهم، وبرامج الطفولة المبكرة، وأوضاع الأمن، والرعاية الصحية، فإنهم أفادوا عن قدْر أكبر كثيرا من الرضا عن مستوى معيشتهم. وهذه هي المجالات التي استثمرت فيها مجموعة البنك الدولي بكثافة واكتسبت فيها خبرات متراكمة.
ولأنني وُلِدت في كوريا الجنوبية عندما كانت من بين بلدان العالم الأشدّ فقرا، فإن ارتفاع سقف الطموحات هو أمر افتخر به. لكنني قلق بشأن قدرة من يعملون في مجال التنمية منا على مواكبة هذه الطموحات.
إن الطموحات إذا اقترنت بإتاحة الفرص قد تُولِّد النشاط والحيوية، وتؤدي إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل للجميع. ولكنني أخشى، كما تشير الدراسات، إنْ لم توجد هذه الفرص لبلوغ تلك الطموحات، أن تؤدي مشاعر الاستياء وخيبة الأمل إلى الهشاشة والصراع والعنف والتطرف وفي نهاية المطاف إلى الهجرة والنزوح.
إننا نشهد بالفعل اتجاهات تبعث على القلق – فمليارا شخص يعيشون في بلدان مبتلاة بأوضاع الهشاشة والصراع والعنف. وبعد فترة من الانحسار منذ نهاية الحرب الباردة، زادت الصراعات العنيفة زيادة سريعة منذ عام 2010، وزادت الحوادث الإرهابية بنسبة 120% منذ عام 2012.
وبحلول عام 2030، سيعيش 50% من فقراء العالم في مناطق يعصف بها الصراع وأوضاع الهشاشة. ولن نبلغ هدفنا القضاء على الفقر المدقع بحلول 2030 ما لم نسع جهدنا للتصدِّي لهذا التحدِّي.
إننا نؤمن بمجموعة البنك الدولي بأن علينا مسؤولية أخلاقية ببذل مزيد من الجهد لمساعدة الفقراء على انتشال أنفسهم من براثن الهشاشة والفقر المدقع، وتحقيق استقرار البلدان التي يعيشون فيها، وبعْث الأمل في المستقبل في نفوسهم.
ولذلك، فقد ضاعفنا المخصصات للدول الهشة في إطار العملية الثامنة عشرة لتجديد موارد المؤسسة الدولية للتنمية إلى أكثر من 14 مليار دولار. ويجب علينا مواصلة البحث عن سبل جديدة ومبتكرة للوصول إلى الفقراء، وجعل العالم أكثر أمنا واستقرارا من خلال تمويل التنمية.
ومع هذه الطموحات العالية والمتزايدة –التي تجسَّدت في أهداف التنمية المستدامة وكانت واضحةً جلية في كل بلدٍ سافرت إليه- يجب أن نتحرك بخطى سريعة لضمان ألا تتحول هذه الطموحات والآمال إلى مشاعر غضب واستياء، وفي نهاية المطاف إلى تطرُّف وهجرة.
ومن منظور حُسْن الأخلاق وعلو الهمة، هذا هو الصواب الذي ينبغي توخيه. ولكن نظرا لارتفاع سقف الطموحات، فإن المهمة أكثر إلحاحا بكثير مما كنا نتصور.
فكيف نتحرَّك بالسرعة والنطاق غير المسبوقين اللذين نحتاج إليهما لبلوغ هذه الطموحات؟
في عام 2015، قبل أن يتبنَّى العالم أهداف التنمية المستدامة، اجتمعت الأمم المتحدة وبنوك التنمية في أديس أبابا لمناقشة سبل تدبير الموارد اللازمة لتحقيقها.
وكنَّا نعلم أنه للوفاء بما نطلق عليه الآن الأهداف العالمية، يجب على العالم أن ينتقل من مناقشة تقديم "مليارات" الدولارات في شكل مساعدات إنمائية رسمية إلى مناقشة تقديم "تريليونات" الدولارات من الاستثمارات بكل أنواعها: العامة والخاصة، الوطنية والعالمية، في رأس المال والقدرات.
وكان الانتقال من "المليارات إلى التريليونات" هو التعبير المختصر لوصف حجم التمويل المطلوب.
ولكن للوصول إلى التريليونات، يجب علينا تغيير الطريقة التي نُؤدِّي بها عملنا.
وحتى الآن –لأكون أمينا معكم- لم نُغيِّر الطريقة التي نعمل بها بدرجة كافية، لم نُغيِّرها بعد.
وكي ننجح مع المهام الهائلة التي تنتظرنا، لابد أن نغير بصورة جذرية نهجنا بشأن تمويل التنمية.
وفي محادثاتنا مع المستثمرين، يقولون كلهم تقريباً إنهم سينظرون في الاستثمار في الأسواق الصاعدة لو كانت درجة المخاطرة فيها أقل. ونظرا للعائد المنخفض الذي يحصل عليه العديد من أصحاب رؤوس الأموال من استثماراتهم، من الضروري أن نتيح سيناريوهات عديدة يربح فيها الجميع، بحيث يكسب رأس المال عائدا أعلى، وتحصل البلدان النامية على الاستثمارات والخبرات التقنية التي تمس الحاجة إليها.
ولابد أن يأتي على رأس أولوياتنا العمل بصورة منهجية على إزالة المخاطر القائمة في المشروعات والبلدان على السواء من أجل تهيئة الظروف أمام تمويل القطاع الخاص، مع العمل في الوقت نفسه على ضمان أن تعود هذه الاستثمارات بالفائدة على البلدان والشعوب الفقيرة.
ولابد أن نفعل ذلك باجتذاب القطاع الخاص كلما أمكن. ويجب أن ربط ذلك بما لدينا من معارف – الخبرة التقنية والمعارف بشأن البلدان والاقتصادات- حتى تعمل رؤوس الأموال حقاً لمنفعة البلدان الفقيرة والفقراء.
ويجب أن نستخدم ما لدينا من رؤوس الأموال والمعرفة للعمل كوسيط أمين بين نظام السوق العالمية ومصالح البلدان الصاعدة والفقراء، وذلك بما يكفل تحقيق النفع لكلا الجانبين.
إننا نؤمن بضرورة أن تعمل جميع مؤسسات التمويل الإنمائي على اجتذاب رأس المال الخاص من خلال مجموعة من المبادئ التي ستزيد الموارد والمنافع إلى أقصى حد لمنفعة الفقراء. إننا لم نحقق ذلك بعد، لكن هذا هو المسار الذي نرى ضرورة المضي فيه لبلوغ هذه الغاية.
أولا، في كل مشروع نسانده، يجب أن نطرح هذا السؤال: "هل يستطيع القطاع الخاص تمويل هذا المشروع بشروط تجارية؟"
في عام 2006، كانت الحكومة الأردنية تعمل مع مجموعة البنك الدولي لتمويل تحسينات في مطار الملكة علياء الدولي بمدينة عمَّان. وكان يمكن تمويل هذا المشروع من المال العام وحده، لكن الحكومة كانت تريد أن ترى هل يمكنها إشراك القطاع الخاص.
وقام خبير البنك الدولي المسؤول عن المشروع جون إسبيكمان بالتواصل مع نظيره في مؤسسة التمويل الدولية -ذراع البنك الدولي للتعامل مع القطاع الخاص- والذي كان قد عمل في مشروع مماثل بالمملكة العربية السعودية وعلى دراية بالسوق.
وعمل الاثنان معاً بالتعاون مع الحكومة الأردنية لوضع أساس العمل لاستثمار من القطاع الخاص. وحينما وضعت مؤسسة التمويل الدولية تصميم صفقة مناسبة، واستثمرت 270 مليون دولار من رأسمالها الخاص، استطعنا اجتذاب تمويل تجاري يكفي لتغطية بقية المشروع.
وأرست الحكومة عقد عمليات المطار على شركة فرنسية تدفع للأردن رسما سنويا. إنها شراكة حقة بين القطاعين العام والخاص. ويتلقى الأردن 54% من صافي الإيرادات، وتحقق الشركة المشغلة أرباحا كل عام.
وعلى مدى السنوات التسع الماضية، ودون أي استثمارات مباشرة لتحسين المطار، حصل الأردن على إيرادات تزيد على مليار دولار، ولا توجد قروض مستحقة على المشروع يتعين عليه سدادها.
ويجب أن نبحث في كل مكان عن مزيد من الفرص مثل مطار الملكة علياء.
ويعني هذا أنه حينما يوجد شيء ذو جدوى من الناحية التجارية، فيجب علينا في كافة مستويات المنظومة الدولية لتمويل التنمية –سواء الجهات الثنائية أو متعددة الأطراف- أن نتفق على أن نساعد الحكومة في التفاوض على صفقة مع القطاع الخاص تكفل تحقيق أعلى جودة بأقل سعر، وتضمن الإدارة الرشيدة، وتلتزم بالمعايير البيئية والاجتماعية. والآن، أستطيع أن أقول لكم إن التوصل إلى اتفاق حول هذا لم يكن سهلا.
وثانيا، يجب أن نُشجِّع على إجراء إصلاحات أساسية. وشهدنا فعالية هذا النهج في تركيا في قطاع الطاقة. فعلى مدى عشر سنوات، وبالتعاون مع شركائنا، ساندنا إنشاء أسواق الكهرباء والغاز، مع التركيز على اللوائح التنظيمية وهيكل التسعير. واستخدمنا التمويل العام في الاستثمارات ذات المنفعة العامة مثل توسيع مرافق نقل الكهرباء، وقدَّمنا المشورة في تغيير اللوائح التنظيمية من أجل كفاءة استخدام الطاقة.
ومع تحرير الأسواق، قادت مؤسسة التمويل الدولية استثمارات في مجال الطاقة المتجددة. كما قدَّمت الوكالة الدولية لضمان الاستثمار، ذراع مجموعة البنك المتخصصة في تقديم ضمانات ضد المخاطر السياسية وضمانات تعزيز الائتمان، التغطية التأمينية. واستطاعت تركيا بفضل مبلغ لا يتعدى خمسة مليارات دولار من الاستثمارات العامة وقروض سياسات التنمية اجتذاب أكثر من 55 مليار دولار من الاستثمارات الخاصة في قطاعي الكهرباء والغاز.
ونحن لا نهدف إلى مجرد إزالة المخاطر القائمة في المشروعات، إنما إلى إزالة المخاطر عن بلدان بأكملها. ولتحقيق ذلك في كل مشروعاتنا، لاسيما تلك التي تفتقر إلى الجدوى التجارية بسبب أوجه قصور السوق أو المخاطر المتصورة، سنعمل مع الحكومات بشأن إصلاحات الإجراءات التنظيمية والسياسات لجعل تلك المشروعات مجدية تجاريا حيثما كان ذلك ممكناً.
وثالثا، يجب أن نستخدم التمويل العام أو المٌيسَّر بطرق مبتكرة لتخفيف المخاطر، والتمويل المختلط لدعم استثمارات القطاع الخاص. وهذا ما نعكف عليه الآن، وهو إيجاد آلية لتخفيف المخاطر تُسمَّى البرنامج الموجَّه لحافظة الإقراض المشترك. ويُتيح هذا البرنامج للمستثمرين من المؤسسات في بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي الاستثمار في مشروعات في البلدان النامية والحصول على عائد عن استثماراتهم.
وتُقدِّم مؤسسة التمويل الدولية والوكالة السويدية للتنمية الدولية (سيدا) ضمانا للتأمين من الخسارة الأولى نسبته 10%، الأمر الذي أدَّى إلى توفير تأمين من المخاطر ذات التصنيف الاستثماري لحافظة قروض من أجل استثمارات البنية التحتية في بلدان الأسواق الصاعدة. ويتيح هذا لشركاء - مثل شركة التأمين أليانز التي تتبنى سياسات متحفظة تجاه تحمُّل المخاطر -الاستثمار في بلدان الأسواق الصاعدة. وتُقدِّم أليانز استثمارات قيمتها 500 مليون دولار. ويساعد هذا البرنامج على تعبئة ما بين 8 إلى 10 دولارات لكل دولار من الاستثمارات العامة.
ومن الأشياء التي نود القيام بها، على سبيل المثال، إيجاد طريقة لصندوق لمعاشات التقاعد في المملكة المتحدة لكي يمكنه الاستثمار في بناء الطرق في دار السلام، والحصول على عائد معقول على ذلك الاستثمار، وعمل الكثير في غضون ذلك.
وبطريقة مماثلة، تعاونت الوكالة الدولية لضمان الاستثمار مع وزارة التنمية الدولية البريطانية والسويد وكندا خلال السنوات القليلة الماضية. ويجري الآن تخصيص 90 مليون دولار من أموال المانحين لتعبئة 800 مليون دولار من الاستثمارات الخاصة في مشروعات في البلدان الهشة والمتأثِّرة بالصراعات.
وتشمل أدواتنا الجديدة أيضا نافذةً للتعامل مع القطاع الخاص تابعة للمؤسسة الدولية للتنمية برأسمال قدره 2.5 مليار دولار، وذلك في إطار عملية التجديد القياسي بمبلغ 75 مليار دولار لموارد المؤسسة الدولية للتنمية. ويشمل ذلك عدة أمور منها برنامج تخفيف المخاطر لتقديم ضمانات على أساس مشروعات بعينها دون تعويض سيادي، وبرنامج العملة المحلية لتخفيف مخاطر تقلبات العملة حيثما لا تكون الأسواق متطورة.
وهناك قطاعات لا يمكن تمويلها إلا باستخدام المال العام، وهي القطاعات التي لا يمكن تحقيق أهدافها من خلال متطلبات التمويل التجاري الخاصة باسترداد التكاليف. ونأمل إذا نجحنا في خلق الأسواق، واتباع هذه المبادئ، في أن تستطيع البلدان استخدام الموارد العامة الشحيحة في استثمار المزيد في البشر، وبناء القدرة على مجابهة الصدمات، ومواجهة الأزمات.
ويجب علينا الاستمرار في البحث عن سبل لاجتذاب القطاع الخاص إلى هذه المجالات، ولكن شريطة أن يكون ذلك في مصلحة الجميع، ولاسيما المستبعدين حاليا من مزايا التنمية. ولنأخذ على سبيل المثال مسألة المساواة بين الجنسين، والدعم الذي لقيته من فتح باب الحصول على التمويل للنساء وإطلاق إمكانياتهن في مجال ريادة الأعمال. إن توفير سبل الحصول على رأس المال للنساء هو أمر بديهي، لكن أمامنا شوط طويل ينبغي قطعه أيضا في إصلاح السياسات الحكومية كي تتمكن النساء من استغلال مواردها الجديدة بشكل كامل.
وهذه المبادئ ليست صالحةً للبلدان المستقرة وحدها، فهي قد تكون مفيدة في الدول الهشة والمتأثِّرة بالصراعات. ففي العراق مثلا، أدت سنوات من الحرب والإهمال إلى انقطاعات يومية للكهرباء، فأصابت الاقتصاد بالشلل. وحتى في العراق، فقد سألنا هل يمكن أن يُموِّل القطاع الخاص أنشطة توليد الكهرباء وتوزيعها في هذه الظروف؟
وكانت الإجابة نعم لإنتاج الكهرباء، ولكن لم يحن الوقت بعد لتوزيعها. واستثمرنا 250 مليون دولار من أموال مؤسسة التمويل الدولية، وساعدنا الحكومة على سن إصلاحات للسياسات، وتعبئة 125 مليون دولار أخرى من الاستثمارات الخاصة في إنتاج الكهرباء.
وساعد هذا الاستثمار على زيادة قدرات محطة كهرباء قائمة بنسبة 50% لتصل الكهرباء إلى 3 ملايين شخص، وساعد على استكمال محطة طاقة جديدة ستتولى توريد نحو نصف احتياجات بغداد من الكهرباء.
وقد يكون إشراك القطاع الخاص في خلق فرص العمل والوظائف وتنمية الاقتصاد أحد أفضل السبل لمنع الصراعات في المستقبل.
ولكن اسمحوا لي أن أتحدث بصراحة - هذا لا يشبه أيام الماضي العصيب لعمليات الخصخصة. علما بأنني كنت ضمن من احتجوا على أيام الماضي العصيب هذه. فنحن لا نتحدث عن إحياء نهج كان فيه الحل لتدهور الخدمات العامة أو للمشروعات الخاسرة المملوكة للدولة هو في الغالب محاولة مفرطة في التبسيط للخصخصة.
على سبيل المثال، في أواخر التسعينيات، في أحد قروضنا نصحنا بخصخصة شركة الكهرباء السنغالية الحكومية (SENELEC). وبعد ذلك بسنوات قليلة، فشلت عملية الخصخصة، واضطرت الحكومة إلى إعادة شراء الشركة.
وكثير من جهود الخصخصة المماثلة لم يسبقها إعداد جيد في غياب فهم واضح لأدوار والتزامات الدولة ومديري القطاع الخاص. ولم تشتمل على الإصلاحات الأساسية للقطاعات الكلية.
واليوم، نُركِّز بشدة على ما إذا كانت البيئة التنظيمية تتيح حوافز للإدارة الكفؤة، وما إذا كانت المبادئ التجارية تُطبَّق بانتظام، وما إذا كانت برامج دعم الخدمات تتسم بالشفافية وتُركِّز على الفقراء، وفي الوضع الأمثل، يتم تمويلها دون الإخلال بسلامتها التجارية.
إننا نتحدث عن نهج مختلف اختلافا كبيرا. وما تمخَّض عنه اجتماع أديس أبابا كان توافقا في الآراء على أن رأس المال الخاص ضروري للتنمية، ولكن تلك التنمية يجب أن تقودها البلدان المعنية بنفسها وتركز دائما على إفادة الفقراء.
وفي جميع الأحوال، لابد أن نسأل أنفسنا – ما هي أولويات الحكومة؟ وما الذي يخدم مصلحة البلدان والشعوب الفقيرة؟ وهل يمكننا أن نوجد أوضاعا يربح فيها الجميع؟ وهل تتماشى هذه الاستثمارات مع قيمنا الأساسية: توفير سبل الحصول على الخدمات، واشتمال الجميع، والمساواة؟
إن الحديث عن هذا النهج سهلٌ هيِّن، لكن الصعب هو تغيير هيكل تمويل التنمية العالمية من أجل الانتقال في هذا الاتجاه.
ولم يصل عالم التنمية إلى ذلك بعد. ولم تصل مجموعة البنك الدولي إلى ذلك بعد. ولكن هذا ما يجب أن نفعله، وفي مجموعة البنك الدولي، نعلم أنه يجب أن نبدأ بأنفسنا.