شاهد التسجيل الكامل للخطاب.
شكراً لك، دولة رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، على هذا التقديم الرقيق وحفاوة الاستقبال.
السيدات والسادة، إنه لمن دواعي سروري أن أتحدث اليوم من أفريقيا، لاسيما في هذه الأوقات العصيبة على القارة والعالم.
بل إنه ذو مغزى أكبر أن أكون هنا في قاعة الصداقة بالسودان في هذه المرحلة التاريخية. لقد بذلتم خلال السنوات القليلة الماضية جهداً رائعاً لوضْع الشعب على طريق التقدم في خضم ظروف بالغة السوء. وقبل عامين ورثت الحكومة الانتقالية للسودان اقتصاداً تضرَّر بشدة ومجتمعاً يعاني ويلات عقود من الصراع والعزلة. ومع أن الشعب كان عاقد العزم على قطع صلاته بالماضي، تعرَّض السودان لشدائد هائلة: من جائحة كورونا، ومحنة الجراد، وفيضانات غير مسبوقة، وسيلٍ من اللاجئين الفارين من الصراع من خارج الحدود.
ومع ذلك، مضى السودان قدماً بتنفيذ إصلاحات جريئة، إذ استعاد التعامل مع المجتمع الدولي، واستطاع تسوية المتأخرات المستحقة عليه للبنك الدولي بمساعدة من قرض مرحلي من الولايات المتحدة، وفي يونيو/حزيران بلغ نقطة اتخاذ القرار التي تؤهله للاستفادة من المبادرة المتعلقة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك). وإنني أُشيد بما حقَّقه السودان من تقدمٍ على صعيد استقرار الاقتصاد الكلي، بما في ذلك تسوية متأخرات الديون، وتوحيد سعر صرفه، وإبطاء وتيرة التضخم، والحد من أوجه النقص، وإلغاء دعم الوقود.
مع أنه لا يزال هناك الكثير الذي ينبغي عمله في المستقبل، فإنني أشيد بالسلطات السودانية مدنيةً وعسكرية على جهودهم وما أنجزوه بالعمل معاً من أجل سودان مُوحَّد متسامح، يمكنه تحقيق مستقبل أفضل لكل مواطنيه. ومن الضروري تفادي التجاوزات السياسية لأنه لا تنمية بدون إحلال السلام والاستقرار. وأود أيضاً أن أُشيد بالصمود المشهود للشعب السوداني - إنَّ سعيكم من أجل بناء سودان أفضل على الرغم من التحديات لهو أمر جدير بالإعجاب حقاً.
أولاً. أزمة منقطعة النظير
هذه أوقات عصيبة للغاية على السودان وأفريقيا، ومليارات من الناس في أنحاء العالم. فالانتكاسات في عملية التنمية تُعرِّض للخطر أرواح الناس ووظائفهم وسبل كسب أرزاقهم وأقواتهم. وفي الكثير من الأماكن في أنحاء العالم، يزداد الفقر، وتتناقص مستويات المعيشة، ومعدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، وتتراجع المكاسب التي تحققت فيما مضى في مجالات المساواة بين الجنسين والتغذية والصحة. وبعض البلدان كان يتعذر عليها الاستمرار في تحمل أعباء الديون قبل الأزمة، وازداد الوضع سوءا.
وبدلاً من أن تتحسَّن أوضاعهم، فقد تخلف الفقراء عن ركب النمو في المأساة العالمية للتفاوت وعدم المساواة. ويخلق هذا الانحسار الشديد للتقدم الاقتصادي والاجتماعي أوقاتاً صعبةً على صُعُد الاقتصاد والسياسة والعلاقات الجيوسياسية. ومع أن بعض الاقتصادات المتقدمة تُقدِّم تريليونات الدولارات لبرامج الإنفاق ومشتريات البنوك المركزية من الأصول، فإن البلدان منخفضة الدخل تواجه ارتفاع التضخم، وقلة الوظائف، ونقص اللقاحات والغذاء، وارتفاع تكلفة التكيُّف مع تحديات المناخ التي لم تكن هي سبباً في نشوئها.
في هذه الأوقات المضطربة المثيرة للقلق، يتمثَّل التحدي الذي يواجهه الناس ومجتمع التنمية في تقصير أمد الأزمة، واستئناف عملية التنمية، وإرساء أساس قوي لمستقبل أكثر رخاء وأفضل استعداداً لمجابهة كوارث مثل جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19).
ولمكافحة هذه الانتكاسات في مجال التنمية، يجب علينا اتباع نُهُج قوية جديدة تناسب هذه الأوقات العصيبة للغاية. وينبغي لنا تركيز جهودنا بدرجة أكبر، وتحديد أولويات واضحة بتقييم ما يصلح وما لا يصلح، والعمل على وجه السرعة لتوسيع نطاق النجاحات.
ثانياً. التغلُّب على انتكاسات التنمية
لقد أدَّت أزمة كورونا إلى زيادة معدلات الفقر مرة أخرى بعد عقود من التراجع المطرد. وقد تسبَّبت في سقوط نحو 100 مليون شخص في مهاوي الفقر المدقع، وأصبح بضع مئات من الملايين في عداد الفقراء، كثير منهم في بلدان متوسطة الدخل. وتعطَّل تراكم رأس المال البشري مع إغلاق معظم المدارس لشهور ربما سنوات، وبعضها لم يتم بعد إعادة فتحها.
وكبَّدت الأزمة الشركات والحكومات أيضاً أضراراً فادحة. وقفزت إغلاقات الشركات قفزةً صاروخية، والكثير من الشركات التي واصلت نشاطها مثقلة الآن بالديون أو تحت وطأة متأخرات الديون المستحقة عليها. وتعاني الحكومات من عجز كبير في حسابات ماليتها العامة يؤدي في أغلب الأحيان إلى ارتفاع الدين العام إلى مستويات تنذر بالخطر وتتطلب من القطاعين العام والخاص توخِّي الحذر الشديد في قراراتهم الاستثمارية.
ولكن الأزمة جلبت أيضاً تحوُّلاً لم يسبقه مثيل. فنحن نشهد زيادة كبيرة في أعداد الشركات التي أُنشئت حديثاً. ورأس المال المغامر يتدفَّق، والحلول المبتكرة آخذة في الانتشار. ورأينا أن قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات، والخدمات اللوجستية، والتمويل -وهي جميعاً ذات مكونات رقمية كبيرة- تشهد طفرة كبيرة في الاقتصادات المتقدمة والبلدان النامية على السواء.
وتُنبِئ هذه الثورة الرقمية بتسريع النمو في القطاعات المستندة إلى تكنولوجيا المعلومات، وتتيح الفرصة لإحداث تحوُّل في قطاعات أخرى مثل التعليم والرعاية الصحية وحتى الزراعة. وعلى طول الطريق، ستحد من سيطرة أصحاب المصالح المكتسبة التي تفسد المنافسة - ربما ساعدت أزمة كورونا على إشعال شرارة التدمير الخلاق الذي هو قاطرة النمو الاقتصادي.
ثالثاً. رعاية جهود التغيير مع مواصلة التركيز على تقليص الفقر
لقد جلبت الإنفلونزا الإسبانية في السنوات 1918-1920 الخراب والموت مثلما فعلت أزمة كورونا. ولكن لم يعقبها فقدان عِقد من المكاسب، إنما تلتها فترة (العشرينيات الهادرة). وشهدت هذه الفترة نمواً اقتصادياً سريعاً للغاية، وكانت أيضاً وقتاً اتسعت فيه فجوات التفاوت الاجتماعي، وتفاقمت الاختلالات المالية الخطيرة لتبلغ ذروتها في الكساد الكبير الذي استمر أمداً طويلاً.
والسؤال الذي ينبغي طرحه على المجتمع الدولي هو: ما الذي يجب علينا عمله لتعزيز نمو ينعم الجميع بثماره، ويكون على نطاق واسع، ويتسم بالاستدامة، ويتفادى فقدان عِقْد من مكاسب التنمية؟
قد يميل المرء إلى القول: فلنواصل المسار الذي نتبعه ونضاعف نهجنا الذي كان قائماً قبل الأزمة. ولكن من الواضح أن هذا لن يكون كافياً في ظل التحديات المتصلة بالجوانب الديموغرافية والمناخ والمرض والديون. وفي الجانب الإيجابي، بالنظر إلى ما تحقَّق من تقدم في مجالات التكنولوجيا والاتصالات والابتكار والتعاون، ليس لزاماً أن يكون كافياً، فلسنا مقيدين بنُهُج ما قبل الأزمة.
إذ يمكننا بل يجب علينا أن نطمح إلى عمل المزيد بطريقتين: أولاً، يجب علينا زيادة التركيز على الأولويات الرئيسية، مع الوضوح في مقاربتنا للتعاطي معها وقياسها. على سبيل المثال، تتمثل إحدى الأولويات العالمية في تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة الذي يتطلب إعطاء أولوية للقطاعات الرئيسية المسببة للانبعاثات وقياس التخفيضات على نحو واضح وشفاف.
وثانياً، نحتاج إلى نطاق أوسع بكثير لتحقيق التأثير. ونحتاج إلى برامج التعليم والتغذية والتطعيم التي تصل إلى مئات الملايين من الأطفال. ونحتاج إلى برامج التحويلات النقدية الرقمية التي يمكنها تقديم الموارد اللازمة إلى مليارات من الناس في الأزمة القادمة. وفي مواجهة تغير المناخ، نحتاج إلى آلاف من المشروعات الكبيرة القائمة على الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتي تجمع موارد العالم -من الحكومات وبنوك التنمية متعددة الأطراف ومؤسسات العمل الخيري ومستثمري القطاع الخاص ومشتري اعتمادات الكربون- من أجل تخفيض انبعاثات الكربون وزيادة سبل الحصول على الكهرباء. ونحتاج إلى آلاف من المشروعات الأخرى التي تساعد الناس على التكيف مع آثار تغير المناخ على نحو ينقذ أرواحهم.
إن مجموعة البنك الدولي لا تزال ملتزمة بتخفيف وطأة الفقر وتعزيز الرخاء المشترك في البلدان المتعاملة معنا - من الناس في أشد البلدان فقراً إلى أولئك الذين يعيشون في البلدان متوسطة الدخل الذين يتخلفون عن ركب التنمية. ويتطلب هذا إتاحة فرص للجميع للاستفادة من منافع الثورة الرقمية، ويستلزم تمكين النساء وحماية الفتيات للتغلب على أسباب الحرمان الراسخة الجذور.
قد يكون إجراء إصلاحات كبيرة للسياسات صعباً، فالاقتصادات لم تخرج بعد من الأزمة، والكثير من المواطنين مستبعدون تماماً من ثمار التعافي. ولاستئناف التقدم على طريق التنمية، ينبغي إعطاء أولوية فورية لتيسير الحصول على اللقاحات وتسريع وتيرة توزيعها. علاوةً على ذلك، ثمَّة أربعة مجالات رئيسية يمكن فيها بالعمل الدؤوب تحقيق تغير جوهري.
الأول هو تحقيق الاستقرار الاقتصادي. فالكثير من البلدان النامية تبذل جهوداً هائلة لمساندة شعوبها والحفاظ على استمرار النشاط الاقتصادي أثناء الجائحة. وقد تجاوز كثيرٌ منها ما كان باستطاعتهم تحمله، لاسيما أن ديون الاقتصادات النامية كانت قد بلغت مستويات قياسية مرتفعة حينما حلَّت الجائحة. وحتى منتصف عام 2021، كان أكثر من نصف البلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية -وهي أشد بلدان العالم فقرا- يعاني ضائقة ديون خارجية أو معرضاً لخطر شديد للإصابة بها. وقد يزداد هذا الوضع سوءاً إذا كانت أسعار السلع الأولية متقلبة، أو زادت أسعار الفائدة، أو فقد المستثمرون الثقة في بلدان الأسواق الصاعدة.
وحينما تنقضي مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين في نهاية هذا العام، ستشهد البلدان منخفضة الدخل التي تستأنف سداد مدفوعات خدمة الديون انكماش الحيز المتاح لها للإنفاق في إطار المالية العامة، الأمر الذي يضعف قدرتها على شراء اللقاحات وتمويل النفقات الأخرى ذات الأولوية. لقد آن الأوان لاتباع نهج تدريجي موجَّه لخدمة الناس لضبط أوضاع المالية العامة وإعادة هيكلة الديون التي يتعذر الاستمرار في تحملها. وعلى هذا الصعيد، سيكون من الضروري تعزيز جهود تنفيذ الإطار المشترك لمعالجة الديون وتسريع وتيرتها. إننا في حاجة إلى التعاون الدولي، بما في ذلك مشاركة القطاع الخاص لتخفيف أعباء الديون على أشد بلدان العالم فقراً، وتمويل الاستثمارات الداعمة للنمو. وفي السودان، على سبيل المثال، ساعد التعاون الدولي الذي شمل الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة هذا البلد على تسوية متأخرات الديون المستحقة عليه للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من المؤسسات المالية الدولية، الأمر الذي جعل من الممكن تخفيف ما يربو على 50 مليار دولار من أعباء الديون فيما سيكون أكبر مبادرة لمساعدة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون على الإطلاق.
ومن الأهمية بمكان أن تكف البلدان عن النفقات العامة التي تنطوي على إسراف، وأن تعمل لرفع كفاءة تقديم الخدمات، وإعادة تخصيص الموارد العامة لتوجيهها نحو الاستخدامات الأكثر إنتاجية. وحان الوقت أيضاً لاتباع نهج استباقي في إدارة الديون لإعادة جدولة المدفوعات في حين لا تزال أسعار الفائدة الدولية منخفضة. ويجب اتخاذ خطوات ملموسة لتحسين شفافية تعاقدات الديون، وزيادة مستويات المساءلة، والحرص على اتخاذ القرارات على أساس معلومات شاملة. وينبغي للبلدان الأقل دخلاً إعطاء أولوية للتمويل الميسَّر وتفادي التمويل بأسعار فائدة مرتفعة الذي ينطوي على إشكاليات متزايدة. وسيكون من الضروري تركيز هذه الأجندة لكل بلد وقياس التقدم المُحرز في هذا الصدد.
والثاني، الاستفادة من الثورة الرقمية. فالإسراع إلى تبني الحلول الرقمية قد يساعد على تحقيق زيادة هائلة في إمكانية الحصول على التمويل وإتاحة فرص اقتصادية جديدة. ويمكن أن يؤدي إلى زيادة المنافسة في أسواق المنتجات وتمكين الأفراد من بيع الخدمات عبر شبكة الإنترنت، وربطهم بالأسواق الوطنية والعالمية. وتتطلب مساندة هذا التحوُّل إجراءات كثيرة واسعة النطاق: الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وإزالة الاحتكارات في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية، وتوفير بطاقات الهوية الوطنية، وخلق بيئة تنظيمية داعمة.
والإمكانات واضحة في شتَّى أنحاء العالم النامي، ومنها أفريقيا. ففي السودان على سبيل المثال، يمتلك ثمانية من كل 10 مواطنين هاتفاً محمولاً، ولدى نسبة مماثلة من المواطنين بطاقة هوية وطنية.
ويمكن للثورة الرقمية أن تؤدي أيضاً إلى تحوُّل جوهري في القطاع العام. فهي على سبيل المثال، تتيح إعادة النظر بشكل جذري في أنظمة شبكات الأمان. وفي شتَّى أنحاء العالم، نشهد انتقال البرامج من التسليم العيني والنقدي إلى التسليم الرقمي بشكل مباشر إلى الحسابات المصرفية للأفراد أو بشكل مرئي على هواتفهم. وبالمثل في القطاعات الرسمية وغير الرسمية على السواء، تُسهِّل أنظمة الدفع الجديدة المشتريات اليومية من خلال الهواتف باستخدام رموز الاستجابة السريعة والتقنيات الأخرى. ولدى كينيا وكثير من البلدان الأفريقية الأخرى خبرة واسعة في هذا المجال.
وفي الكثير من البلدان متوسطة الدخل، قد يُسهِّل الانتقال إلى الحكومة الإلكترونية الحصول على الخدمات العامة للأسر والشركات. وقد تساعد المشتريات الإلكترونية على الحد من فرص الفساد، وفي الوقت نفسه تعزيز شفافية الحكومة وكفاءتها.
والثالث، جعل عملية التنمية أكثر اخضراراً واستدامة. والمجتمع الدولي ملتزم التزاماً قوياً بإبطاء الزيادة في انبعاثات الكربون في الغلاف الجوي، والحد من تأثيرات تغير المناخ على الفئات الأكثر احتياجاً والأولى بالرعاية. وخطوة رئيسية في هذا الصدد هي التوقف عن إنشاء محطات جديدة تعمل بالفحم وإيقاف تشغيل المحطات القائمة والاستعاضة عنها بمصادر أنظف للكهرباء. ويجب علينا مساندة البلدان في تحقيق تحوُّل "عادل" يتضمن العناية بالأيدي العاملة المتضررة. وتتزايد جدوى هذا التحول، إذ ساعدت الابتكارات التكنولوجية على خفض تكلفة الطاقة النظيفة. وانطلاقاً من إدراك التكلفة الهائلة لهذه المهمة، يجب أن تتركز الجهود على أكثر أشكال التحول تأثيرا.
ولقد حان الوقت أيضاً لإعادة تنشيط إصلاحات قطاع الطاقة التي تعثرت في أغلب الأحيان. إن أنظمة دعم الطاقة باهظة التكاليف وذات تأثير مُشوِّه للسوق، في حين أن إزالتها يجب أن تتم على نحو يعالج أوجه عدم الكفاءة والنقص الكامنة ويزيد إمكانية الحصول على الطاقة. ويتطلَّب السعي من أجل توفير إمدادات طاقة نظيفة ميسورة التكلفة المنافسة في مجال توليد الكهرباء وتوزيعها، وكذلك وجود هيئة تنظيمية مستقلة حقا. ويكتسب التزام السودان بإصلاح قطاع الكهرباء أهمية كبيرة في هذا الصدد.
ويُعد قطاع النقل مصدراً رئيسياً آخر لانبعاثات غازات الدفيئة. ومع التوسع العمراني المتوقع في البلدان النامية، يمكن أن تساعد البنية التحتية وتصميم المدن على تحقيق تغير هائل إلى الأفضل. فبدلاً من الحواضر مترامية الأطراف التي يقضي فيها المسافرون ساعات على الطرق، ينبغي للحكومات العمل من أجل إقامة مدن أصغر حجماً تتوفر بها أنظمة ذات كفاءة للنقل العام النظيف.
وفي جهود مكافحة تغير المناخ، سواء بتخفيف آثاره أو التكيف معها، أو جهود التنمية بوجه أعم، يجب علينا إعطاء الأولوية والتركيز للجهود من أجل تحقيق أكبر تأثير ممكن لكل دولار يتم إنفاقه، والبحث عن الحلول التي يمكن تطبيقها على وجه السرعة على نطاق واسع.
والرابع، الاستثمار في البشر. لقد أظهرت الأزمة أن وجود أنظمة قوية وفعالة للرعاية الصحية يجب أن يكون في طليعة جهود البلدان للتأهب من أجل مجابهة الصدمات في المستقبل. ويمثل الحصول على اللقاحات المضادة لفيروس كورونا وتوزيعها أولوية ملحة الآن، ولكن التطعيمات الأخرى ضرورية أيضاً لمكافحة الأمراض الفتاكة الأخرى.
وتتطلب تقوية أنظمة التعليم والرعاية الصحية أكثر من مجرد توفير الموارد المالية على نحو يتسم بالكفاءة مع إعطائها الأولوية. على سبيل المثال، من الأهمية بمكان مواءمة الحوافز للمعلمين ومقدمي الرعاية الصحية -من المؤسسات العامة أو الخاصة- مع احتياجات الناس الذين يخدمونهم. ومن الضروري أيضاً إيجاد حلول قابلة للتطبيق على نطاق واسع لتعزيز الرعاية الصحية، وتحسين جودة خدمات التعليم، بما في ذلك من خلال التعلم من بعد.
ما من مكان لتراكم مكونات رأس المال البشري أكثر أهمية من البلدان المتأثرة بالصراعات التي يعيش فيها اليوم معظم الفقراء. ومن الأولويات الرئيسية مساعدة اللاجئين والمجتمعات المحلية المضيفة لهم. والأمن ذو أهمية بالغة لكن الجنود لا يمكنهم الفوز في معركة التنمية. فالتغيير يأتي على الأرجح من الانتصارات الصغيرة التي تتحقَّق لدى ملايين الأسر بمرور الوقت.
فعلى سبيل المثال، على مستوى الأسرة والمجتمع نعمل من أجل بناء القبول لعمل المرأة خارج المنزل، ولتعليم جميع الأطفال، وللاعتراف بإسهامات الفتيات. وفي الواقع، يتضمن تعليم الفتيات أكثر من مجرد تزويدهن بالمهارات. إنه يعني تعزيز الاكتفاء الذاتي وتشجيع طموحاتهن. فهذا يصب في مصلحة الجميع. ويتيح سد الفجوات القائمة بين الجنسين عوائد اقتصادية هائلة للبلدان النامية، ومنها البلدان الأشد هشاشة وتأثراً بالصراع.
رابعاً. مساهمة مجموعة البنك الدولي
لن يكون شيء من هذا سهلاً هيناً، لكن مجموعة البنك الدولي تتمتع بوضع فريد يؤهلها لمساندة البلدان في تحقيق الأولويات الأربع التي ذكرتُها -- من خلال تقديم التمويل والخبرة الفنية للحكومات وفي الوقت نفسه حشد مشاركة القطاع الخاص. وإن لدينا خبرة منقطعة النظير في العمل مع البلدان واستخدام الخبراء الفنيين في كل القطاعات الرئيسية. ومعظم موظفينا ينحدرون من بلدان نامية ويجلبون في الغالب خبرات من ابتكارات في مجال التنمية ساعدوا في تطبيقها في بلدانهم ومناطقهم.
ويتوزَّع موظفونا بشكل لامركزي متزايد في مكاتب قُطرية في أنحاء العالم، وقمنا أيضاً بزيادة وجودنا في البلدان التي تعاني أوضاع الهشاشة والصراع. وخلال الأعوام الأربعة الماضية، زدنا إلى الضعفين تقريباً وجودنا في الأماكن التي تعاني أوضاع الهشاشة والصراع والعنف ليصل إلى أكثر من 1200 موظف في الوقت الحالي.
إننا نفخر باستجابتنا في مواجهة جائحة كورونا، ونتقدم بالشكر إلى المساهمين على مساندتهم. وفي الفترة من أبريل/نيسان 2020 حتى يونيو/حزيران 2021، ارتبطنا بتقديم أكثر من 157 مليار دولار، وهي أكبر استجابة في مواجهة أزمة في تاريخنا. لقد ساعدنا البلدان على معالجة الطوارئ الصحية وقدمنا التمويل لشراء اللقاحات المضادة لفيروس كورونا في 62 بلدا. ويسعدنا أن ندخل في شراكة مع مرفق كوفاكس والصندوق الاستئماني الأفريقي لشراء اللقاحات والاتحاد الأفريقي واليونيسف بشأن أولويتنا المشتركة في مساعدة البلدان على شراء اللقاحات وتوزيعها. وقد وصلت مساندتنا لأشد البلدان فقراً إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق بما في ذلك تقديم منح وقروض ميسرة للغاية إلى بلدان مؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية. ومع مساعدتنا البلدان على التصدي لأزمة الجائحة، نعمل أيضاً من أجل تسهيل التنمية الخضراء والقادرة على الصمود والشاملة للجميع.
وفي الفترة المقبلة، يجب بذل جهود أكبر بكثير لتحقيق تعاف له مقومات البقاء ومسار إنمائي أفضل للجميع. ولا تزال الحاجة إلى اللقاحات المضادة لفيروس كورونا هائلة، ولدينا تمويل متاح بسهولة للاستمرار في مساندة البلدان. وتواجه البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل الكثير من التحديات المتكررة. فبعضها يعاني من الهشاشة كما نرى في منطقتي القرن الأفريقي والساحل. ويجب على الجميع تقديم الخدمات على نحو فعال، وتمويل البنية التحتية القادرة على الصمود، واغتنام الفرص الرقمية، والاستجابة في مواجهة تغير المناخ. ومع تجديد موارد المؤسسة الدولية للتنمية في وقت لاحق من هذا العام، يدعو رؤساء الدول الأفريقية المانحين إلى التحلي بالطموح في دعم الرسالة الحيوية للمؤسسة من أجل أشد البلدان فقرا. وسيستمر البنك الدولي للإنشاء والتعمير ومؤسسة التمويل الدولية والوكالة الدولية لضمان الاستثمار أيضاً في إيجاد سبل لزيادة التمويل وتعبئة مزيد من الموارد، بما في ذلك من القطاع الخاص.
لقد خلقت هذه الأزمة التي لم يسبقها مثيل أوقاتاً مضطربة. وستُحدِّد الاختيارات الكثيرة في السنوات القادمة ما إذا كانت البلدان النامية ستعاني من ضياع عشر سنوات أم أنها يمكن أن تبشر بنمو سريع وتحول اقتصادي ملموس.
لقد أوضحتُ المهام الهائلة المطلوبة: وهي تحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو، والاستفادة من الثورة الرقمية، واتخاذ إجراءات قوية لمكافحة تغير المناخ، والاستثمار في البشر. ويتطلب النجاح مشاركة فعالة من القطاعين العام والخاص في مختلف البلدان، ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات العمل الخيري، بل سيتطلب في الواقع تضافر جهود المجتمع الدولي برمته. وتستلزم هذه الجهود تحلي القادة بالطموح من أجل رخاء شعوبهم. وهي تتطلب التركيز والتطبيق على نطاق واسع في مختلف مجالات عملنا الإنمائي.
حينما أتحدث إلى الناس هنا في السودان، وأنظر إلى وجوه الشباب في هذه القاعة أشعر بالتفاؤل بأننا سنساعد البلدان على تفادي ضياع عقد من المكاسب. وحينما تتحدثون عن مسيرتكم نحو السلام والرخاء والوحدة الوطنية، تسير مجموعة البنك الدولي وبقية المجتمع الدولي بجانبكم. وبالعمل معا سنبني مساراً أفضل للتنمية. تاريخ السودان هو تاريخكم الذي يجب أن ترسموا معالمه. شكراً لكم.