بغداد 30 سبتمبر/أيلول، 2020 - يجد العراق نفسه اليوم بعد مضي قرابة عقدين على الحرب في 2003 عند مفترق طرق، فهو محصور في شراك الهشاشة، ويواجه حالة من عدم الاستقرار المتزايد والعديد من الأزمات. ويتوقع أن يسجل العراق أسوأ أداء له على صعيد النمو السنوي لإجمالي الناتج المحلي منذ سقوط نظام صدام حسين. إلّا أنه بإمكان العراق، حتى في ظل تفشِّي جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19)، وصدمة أسعار النفط، والاحتجاجات التي تفجرت في الآونة الأخيرة، أن ينتهج السبيل الذي يؤدي إلى النمو المستدام والسلام والاستقرار ورفع مستويات معيشة شعبه.
جاء ذلك في المذكرة الاقتصادية الجديدة للعراق التي أصدرها البنك الدولي بعنوان "النهوض من واقع الهشاشة" والتي تبحث أسباب عدم نجاح العراق في الإفلات من شراك الهشاشة. كما تشرح المذكرة بالتفصيل كيف يمكن للعراق تحويل الأزمات إلى فرص، وتنويع نشاطه الاقتصادي بعيداً عن قطاع النفط، وتحقيق نمو مستدام في المستقبل. إلا أن التقرير الجديد يُشدِّد على أن ذلك سيتطلَّب الإصرار والمثابرة، وأن العراق سيواجه قدراً كبيراً من عدم اليقين وهو يسعى إلى التغلُّب على تحدياته التي طال أمدها، وتغيير الوضع القائم.
وتعقيباً على ذلك، قال ساروج كومار جها، المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي: "إن تنويع النشاط الاقتصادي من خلال الإصلاح وتطوير القطاع الخاص أمر بالغ الأهمية للحد من التحديات المتعاقبة التي يواجهها العراق. وتتضمَّن هذه المذكرة الاقتصادية خارطة طريق لمساعدة العراق وشعبه على إعادة النظر في النموذج الاقتصادي القائم، وبناء اقتصاد أكثر تنوعاً لإتاحة الفرص لجميع العراقيين، وإعادة بناء العقد الاجتماعي. ويؤكد البنك الدولي على شراكته في مساعدة العراق على المضي في طريق الإصلاح لترسيخ السلام والاستقرار، وإتاحة الفرصة لكل العراقيين لتحقيق أعلى طموحاتهم وآمالهم."
وأوضح التقرير الجديد كيف أن ثروة العراق النفطية مكَّنته على مدى عدة عقود من الارتقاء إلى مصاف البلدان مرتفعة الدخل، ولكنها في نواحٍ كثيرة جعلت مؤسساته ومخرجاته الاجتماعية والاقتصادية تُشبِه أوضاع بلد هش منخفض الدخل. وأدَّت العائدات النفطية إلى تآكل القدرة التنافسية الاقتصادية للبلد، وقلَّلت من الحاجة إلى فرض الضرائب، وأضعفت رباط المساءلة بين المواطنين والدولة، وأجّجت الفساد.
وكشفت جائحة كورونا وصدمة أسعار النفط بوضوح مقدار ما خسره العراقيون في العقدين الأخيرين. فالنظام التعليمي الذي كان تصنيفه في وقت من الأوقات قريباً من القمة بين أقرانه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بات الآن قريباً من القعر. ومعدل المشاركة في القوى العاملة في العراق يتعثَّر عند مستوى 42%، بالإضافة إلى تسجيل العراق أحد أدنى معدلات مشاركة النساء في القوى العاملة في العالم. يواجه العراق الآن تدني مستويات رأس المال البشري، وتدهور مناخ الأعمال، وأحد أعلى معدلات الفقر بين الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل.
ويُحدِّد التقرير الجديد السبل الرئيسية التي يمكن للعراق انتهاجها لتحقيق نمو مستدام بعد دراسة وافية لأوضاع الاقتصاد السياسي المُعقَّدة في البلد. ويُشدِّد التقرير على أنه ينبغي للعراق أن يعطي الأولوية لإعادة تركيز العملية السياسية على التنمية، ورفع مستوى الشفافية في إدارة الثروة النفطية والموارد العامة. ويُبرِز التقرير أيضاً الحاجة الملحة إلى أن يعيد العراق بناء الثقة بين المواطنين والحكومة من خلال تعزيز مشاركة المواطنين ومساءلة الحكومة في تقديم الخدمات والبنية التحتية ذات الأولوية، وتلبية احتياجات الشباب المتعلقة بالوظائف، ومعالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية.
وعلى الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية التي يواجهها العراق في الوقت الراهن، ثمة ثلاثة مجالات للتركيز يمكن أن تساعد على تحقيق تنويع النشاط الاقتصادي، والنمو، والاستقرار:
الأولى، أن الحفاظ على السلام يمكن أن يكون في حد ذاته مُحرِّكا قويا للنمو. كان متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في العراق في عام 2018 أقل بمقدار الخمس عن المستوى الذي كان من الممكن تحقيقه لولا الصراع الذي بدأ في عام 2014، وذلك في حين كان إجمالي الناتج المحلي للقطاع غير النفطي أقل بمقدار الثلث. وفي البلدان التي تشهد حلقة مفرغة من العنف والهشاشة، يُعَد اتخاذ سياسات مُنسَّقة من قبل ائتلاف عريض من الجهات الفاعلة أمرا بالغ الأهمية للحفاظ على "مسارات السلام" وإرساء حلقة إيجابية. وخلص التقرير إلى أنه في الأجل القصير يجب أن يركِّز العراق على الإصلاحات التي توسيع مظلة شبكات الأمان الاجتماعي للفئات الفقيرة والأكثر احتياجا، وتحسين تقديم الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة، وضمانكفالة تحسين الشفافية في عمل المؤسسات الحكومية.
الثاني، استغلال الإمكانيات التصديرية للعراق للمساعدة في تنويع النشاط الاقتصادي بعيدا عن إنتاج النفط، والاتجاه نحو التجارة والتكامل. ويتمتع العراق بموقع جغرافي يؤهله أن يكون مركزا إقليميا للخدمات اللوجستية، لكن أداء العراق على صعيد الخدمات اللوجستية يتأخر كثيرا عن أداء نظرائه إلى درجة أنه أصبح نقطة اختناق إقليمية.
والثالث، النهوض بالقطاع الزراعي في العراق ليصبح ركيزةً أساسية من ركائز اقتصاد أكثر تنوعا يقوده القطاع الخاص. وتمتلك قطاعات الإنتاج الزراعي، والصناعات الغذائية، وما يتصل بها من خدمات، ومنها الخدمات اللوجستية، والتمويل، والصناعات التحويلية، والتكنولوجيا إمكانيات كبيرة للتوسع وخلق الوظائف. ولا يخضع قطاع المنتجات الزراعية الغذائية لنفس المستوى من الرقابة الحكومية الذي تواجهه قطاعات أخرى، ولذلك فإنه في وضعٍ يُؤهِّله لاستحداث أساليب جديدة للعمل وتبنِّي أحدث التقنيات لتعظيم قدراته التنافسية.
وتبني المذكرة الاقتصادية للعراق الجديدة هذه على تقريرين سابقين من عام 2006 وعام 2012 أكد البنك الدولي فيهما ضرورة أن ينتقل العراق من الصراع إلى إعادة التأهيل، ومن هيمنة الدولة إلى التوجه نحو السوق، ومن الاعتماد على النفط إلى تنويع الاقتصاد، ومن العزلة إلى التكامل الإقليمي والعالمي.
ويبني التقرير على تلك التوصيات عن طريق (1) إجراء تحليل وافٍ لتحديات الهشاشة والاقتصاد السياسي الكامنة التي يواجهها العراق وآثارها على نموذج النمو المتنوع؛ (2) تحليل خصائص النمو في العراق وإمكانيات لتنويع النشاط الاقتصادي والمنافع المرجوة منه، (3) تقييم إمكانيات العراق للتجارة والتكامل الإقليمي من أجل تحقيق النمو؛ و(4) مراجعة أوضاع القطاع الزراعي في العراق وإمكانياته لدعم تنويع النشاط الاقتصادي.