مساء الخير. أود أن أشكر مضيفنا اليوم السيد فراتشر والمعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (DIW). ونتقدم بخالص الشكر على إقامة هذه الفعالية في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية. وأود أيضا أن أشكر الحكومة الألمانية وممثلها لدى البنك الدولي، صديقتنا العزيزة أورسولا مويلر. وأود هنا أن يعلم جميع الألمان أن لهم سفيرة رائعة ومتميزة ينبض قلبها بالرحمة لدى العالم النامي، وهي السيدة أورسولا.
إن العالم اليوم يواجه تحديات معقدة ومثيرة للقلق أكثر من أي وقت مضى. تأمَّلوا للحظة كيف تغيَّر العالم في ظرف عامين فحسب. في أبريل/نيسان 2014، لم تكن أوروبا بعد قد شهدت التدفق الهائل لللاجئين القادمين من بلدان كثيرة. وقبل عامين، لم يكن العالم قد استيقظ بعد على الوباء الرهيب الإيبولا وهو ينتشر في أرجاء بلدان غينيا وليبريا وسيراليون الواقعة في غرب أفريقيا. ولم تكن لدينا أحدث الشواهد المفزعة على آثار تغيُّر المناخ، مع ارتفاع درجات حرارة الأرض إلى مستويات قياسية، وخروج المنطقة القطبية الشمالية من شتاء لم يكن شتاء على الإطلاق.
والآن، تأمَّلوا للحظة أيضا الأحداث الأخرى التي وقعت في الأشهر الخمسة الماضية فحسب، وجلبت التطرف العنيف إلى أعتاب أوروبا وفي شتَّى أنحاء العالم – – الهجمات الرهيبة في باريس، والهجمات في بروكسل قبل أسبوعين فحسب، وأعمال الإرهاب في لاهور في الآونة الأخيرة التي أودت بحياة 29 طفلا يلعبون في متنزه عام، والعنف الرهيب في الكثير من المدن الأخرى – إسطنبول، وأنقرة، وباماكو، وتونس، وجاكرتا، وواغادوغو، وسان برنادينو، ومقديشو، ومنتجع ناء في كوت ديفوار.
لقد اتضح بجلاء شديد أن العالم مترابط بشكل عميق. فالقضايا الكبرى التي تثور في بلد نام تنتقل سريعا الآن لتؤثر في البلدان المتقدمة، والعكس صحيح –وبدرجة أكبر من أي وقت مضى: تغيُّر المناخ، والأوبئة، واللاجئون، والإرهاب، وفترات التراجع الاقتصادي، كلها تنتقل بسهولة في مختلف أنحاء العالم. وما يحدث في حلب يُؤثِّر على برلين، وما يجري في بكين يظهر أثره في بوينس إيرس. وفي سياق هذه التحديات الهائلة، ما الذي ينبغي عمله؟ وفي هذا الوقت الذي تحتدم فيه الأزمات المتعددة، ويتسم بالترابط المطرد، وتباطؤ الاقتصاد العالمي، كيف تتصرف مؤسسة مثل مجموعة البنك الدولي رسالتها إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك في بلدان العالم النامية؟
من منظور بلد منفرد، لا تزال إستراتيجيتنا كما هي – مساندة النمو الاقتصادي، والاستثمار في البشر، وضمان ألا يسقط الناس مرة أخرى في براثن الفقر. لكن لكي نتصدى بمزيد من الفاعلية للمخاطر العامة العالمية التي ذكرتها، فإن رؤيتنا قد تغيَّرت، وسيتعيَّن أن تشهد مزيدا من التغيُّر في المستقبل.
أولا، التصدِّي لتحديات المخاطر العالمية التي تتخطَّى الحدود والمناطق سيصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى لتحقيق رسالتنا. لقد كان التركيز الرئيسي لمجموعة البنك الدولي على مدى سنوات هو الاستجابة لاحتياجات البلدان المنفردة. وسيظل هذا محور نهجنا، لكنه غير كاف. ويجب تكملة عملنا الذي يركز على البلدان بالتزام أشد قوة بالمضي قدما والتصدي بشكل مسبق للقضايا الجوهرية التي تؤثِّر في كوكبنا بأكمله.
وثانيا يجب أن نركز بقدر أكبر من الفاعلية على إدارة المخاطر وأوجه الغموض وعدم اليقين. فجدول الأعمال يتغيَّر بالفعل في العديد من أنشطتنا الإنمائية، حيث يزداد التركيز على إدارة مخاطر الكوارث، والاستثمارات الموجهة للتصدي للتقلبات المناخية، وتعزيز المساندة للبرامج المبتكرة للحماية الاجتماعية للقريبين من خط الفقر أو من هم فوقه مباشرة.
وثمة تغير رئيسي ثالث أمامنا وهو ضرورة أن نبذل المزيد من الجهود لمعالجة جيوب الفقر وعدم المساواة المتزايدة في البلدان على كافة مستويات الدخل. ويقتضي هذا منَّا أن نستثمر ونساند البلدان متوسطة الدخل التي تواجه تحديات الهشاشة، لاسيما عندما يمكن أن تهدد الآثار غير المباشرة للهشاشة كلا من البلدان المجاورة والبعيدة. وإذا تركنا هذه المشكلات بلا حل، فإن مخاطر الصراع والتطرف في هذه الأوضاع سوف تقوى وتشتد، كما رأينا في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
إن برلين هي المكان الصحيح للحديث عن هذا التحول الجوهري في أسلوب عملنا. لقد أظهرت ألمانيا كيف يمكن للصناعة، وحتى مؤسسات الأعمال الصغيرة والمتوسطة، أن تتكيف للاستفادة من العولمة، وفي الوقت نفسه إبقاء التكاليف الاجتماعية لهذه التصحيحات عند مستويات متدنية. وأثبت الألمان أن حصافة سياسة المالية العامة لا تتعارض مع السخاء المنقطع النظير-الحفاظ على توازن الميزانيات الوطنية مع استقبال ما يربو على مليون شخص نزحوا بسبب الصراع في الشرق الأوسط. لقد كانت ألمانيا أيضا من بين البلدان المانحة الأكثر سخاء طوال الأزمة الاقتصادية، ونحن في غاية الامتنان للدعم القوي الذي تقدمه ألمانيا إلى المؤسسة الدولية للتنمية، وهي صندوق مجموعة البنك الدولي لتقديم القروض الميسرة والمنح للبلدان الأكثر فقرا في العالم.
وألمانيا هي أيضا أكثر بلدان الاقتصادات الكبرى انفتاحا، وتجارتها كنسبة من إجمالي الناتج المحلي تزيد على ضعفي مثيلاتها في الولايات المتحدة والصين واليابان والمملكة المتحدة وفرنسا. لقد أسهمت منشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة في ألمانيا في زيادة الإنتاجية، وتعزيز الصادرات، وخلق فرص العمل والتوظيف بمعدلات مثيرة للإعجاب. وظلت معدلات البطالة في ألمانيا منخفضة في أوقات الرخاء والأزمات الاقتصادية على السواء. وقد أظهرت كيف يمكن تحقيق تحسينات اقتصادية واجتماعية وبيئية كبيرة -وكلها معا في وقت واحد.
ولكن، قبل أن أصف بقدر أكبر من التفصيل تطوَّر نهجنا لتحقيق منافع عامة عالمية، أريد أن أعرض بعض المعلومات الأساسية عن الحالة الراهنة للاقتصاد العالمي الذي يجعل معالجة هذه الأخطار والتهديدات جميعا أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بدأت معدلات النمو في الانتعاش خلال السنوات الثلاث الماضية، ونتوقع أن يستمر هذا الاتجاه في العام الحالي. ومع استمرار قلقنا لانخفاض معدلات النمو في بلدان الاقتصادات المتقدمة، فإنه بالنظر إلى تركيزنا نشعر بقلق كبير للتباطؤ في الاقتصادات الصاعدة التي هبطت فيها معدلات النمو نحو نقطة مئوية واحدة منذ عام 2013 -من أكثر من خمسة في المائة إلى نحو أربعة في المائة. والصين هي أحد الأسباب، لكن الانكماش الاقتصادي في البرازيل وروسيا من العوامل الرئيسية أيضا.
ومن وجهة نظرنا، هناك ثلاثة عوامل رئيسية في هذا التباطؤ - هي تباطؤ نمو التجارة، وزيادة صعوبة الحصول على رأس المال، وقلة التقدم المحرز في خلق الوظائف.
فقد كانت التجارة محركا قويا للتنمية الاقتصادية في البلدان منخفضة الدخل، وكان لتباطؤ معدل نمو التجارة – الذي بلغ نصف ما كان عليه قبل الأزمة المالية- أثر كبير في أنحاء البلدان النامية. فواردات السلع، على سبيل المثال، نمت بنسبة تزيد على ستة في المائة سنويا في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي، لكن منذ اندلاع الأزمة بلغ متوسط نموها 3 في المائة. ومع تعالي الأصوات المطالبة بالحماية التجارية على جانبي الأطلسي، فإننا نعلم أن البلدان الأفقر هي الأشد تضررا من الحماية التجارية. لكنها تضر أيضا بشكل الفقراء أكثر من غيرهم في البلدان الأغنى. وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ستنخفض القوة الشرائية للفقراء بأكثر من النصف إذا اغُلق الاقتصاد في وجه التجارة.
وبلغ تقلُّب أسواق الأوراق المالية الذي يرجع إلى عدم اليقين والخوف فيما بين المستثمرين أشده منذ الأزمة في منطقة اليورو في عام 2010. وكان هذا نبأ سيئا للبلدان النامية، إذ سحب المستثمرون 40 مليار دولار من أسواق السندات والأسهم في الاقتصادات الصاعدة في الربع الأخير من عام 2015، وهي أكبر تدفقات خارجة لرأس المال منذ انهيار ليمان براذرز في عام 2008.
بيد أن أكثر ما يثير قلقنا هو بطء تعافي التوظيف في كل أنحاء العالم تقريبا. فما زال 75 مليون شخص إضافي عاطلين بعد مرور خمس سنوات على انتهاء الأزمة المالية العالمية. ووجدت منظمة العمل الدولية أن نسبة الشباب الذين لا يدرسون ولا يعملون في ازدياد في ثلاثة بلدان مقابل كل بلد شهدت فيه هذه النسبة تناقصا. وبلغت المشكلة أشدها في منطقة الشرق الأوسط. فمنذ عام 2007، زادت معدلات البطالة بين الشباب في معظم بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولابد أن نتصدى لهذه المشكلة على جبهات متعددة في وقت واحد، ولكن إحدى أهم الخطوات التي ينبغي اتخاذها هي تسهيل الإجراءات لمنشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة لمزاولة أعمالها في هذه المنطقة.
وقبل أسبوع، كنت مسافرا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جولة مشتركة مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. وأينما ذهبت سمعت شبانا وآخرين كثيرين يقولون إن أكبر أسباب انسياق الكثيرين نحو قضية التطرف هو قلة الوظائف وغياب الأمل عموما في مستقبلهم. وإذا كان لنا أن نجتث جذور التطرف، فإننا بحاجة إلى حلول سياسية لإنهاء الصراع، ولكننا نحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير. يجب علينا أولا وقبل كل شيء تهيئة الوظائف، ولتحقيق ذلك يجب علينا مساعدة أكثر البلدان هشاشة وتأثرا بالصراع على بناء اقتصاداتها وإتاحة الفرص، لاسيما للنساء والشباب.
ويجب أن نضفي أيضا مسحة من الواقعية في هذا المقام. وفي هذا العام الذي يتسم بشح الموارد -لاسيما في أوروبا، حيث وجدت البلدان المانحة أنها ستضطر لاستخدام جانب من مساعداتها الإنمائية الخارجية في مساندة اللاجئين الذين يقيمون الآن داخل حدودها- كيف يتسنَّى لنا زيادة استثماراتنا في البلدان النامية، وإنهاء الفقر المدقع، ومعالجة هذه الأزمات؟
ومن بين المتطلبات الأساسية التي نرددها مرارا وتكرارا ضرورة قيام البلدان النامية بإصلاحات هيكلية من شأنها تحسين مناخ الأعمال والاستثمار وخلق مزيد من الثقة في القطاع الخاص، الذي يشهد تهيئة الغالبية العظمى من الوظائف الجديدة. اسمحوا لي أن أكون محددا هنا - فالأمر الذي نتحدث عنه هو الانتقال من نظام لا يمكن فيه إلا لنخب معينة الحصول على رأس المال، وتنخرط فيه الطبقة البيروقراطية الفاسدة في أعمال تربح مشينه واستغلال للنفوذ، إلى نظام تتاح فيه لجميع المواطنين بشفافية وإنصاف الوصول إلى رأس المال والحصول على ترخيص مزاولة الأعمال وكافة المدخلات الضرورية الأخرى.
ونحن نؤمن أيضا أنه بمقدور البلدان النامية أن تزيد مستوى تمويلها الذاتي زيادة كبيرة عن طريق تحصيل مزيد من الضرائب من مواطنيها على نحو أكثر إنصافا. إنني والمدير العام لصندوق النقد الدولي السيدة كريستين لاغارد نبذل كل ما في وسعنا لمساعدة البلدان على بناء نظم ضريبية أكثر عدلا وفاعلية، وتذهب تقديراتنا إلى أن البلدان النامية يمكنها زيادة تعبئة مواردها الداخلية بنسبة تتراوح بين 2 و 4 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي. وحتى إذا بلغت تلك النسبة 2 في المائة فقط، فإنها ستعادل نحو 450 مليار دولار، أو ثلاثة أمثال المساعدات الإنمائية الرسمية في الوقت الراهن. ونحن هنا لا نتحدث عن فرض ضرائب على الفقراء – فغالبية الأنظمة الضريبية بالبلدان النامية هي أنظمة تنازلية إلى حد ما، ولا يدفع فيها الأغنياء حصتهم العادلة من الضرائب.
ولكن لتحقيق أي من أهدافنا، لابد أن نتوسع في استخدام الأدوات المالية المبتكرة. وتعمل مجموعة البنك الدولي وبنوك التنمية الأخرى متعددة الأطراف والبلدان المانحة مثل ألمانيا على تقديم تمويل بأسعار فائدة أقل كثيرا للمشروعات التي تساعد على خلق الوظائف في الأماكن التي تشتد فيها الحاجة إلى الوظائف.
وعلى سبيل المثال، في مبادرة رائدة الشهر الماضي، قدم مجلس المديرين التنفيذيين بالبنك الدولي للأردن –وهو بلد متوسط الدخل- أسعار فائدة كانت مخصصة لأفقر البلدان، وذلك بسبب ما أبداه من سخاء وكرم في استضافة أكثر من مليون لاجئ سوري. لقد قدمنا قرضا مبدئيا بقيمة 100 مليون دولار بأسعار ميسرة كانت مُخصصة في العادة للبلدان الأكثر فقرا فقط، وسنقدم مبلغا إضافيا قدره 200 – 400 مليون دولار من التمويل الميسر بغرض إقامة منطقة اقتصادية خاصة لمنشآت الأعمال ستساعد على خلق الآلاف من فرص العمل لكل من اللاجئين السوريين والمواطنين الأردنيين على مدى السنوات الخمس القادمة. ويعد ذلك جهدا مبتكرا بحق ينبغي التوسع فيه وتطبيقه في بلدان أخرى أيضا.
إن تعزيز النمو الاقتصادي وخلق الوظائف في أوضاع البلدان الهشة مهمة عاجلة. ويتوقع خبراؤنا الاقتصاديون أن معدل النمو الاقتصادي إذا بلغ متوسط مستواه في السنوات العشر الماضية، فلن يكون بوسعنا خفض الفقر المدقع في العالم إلا إلى ستة في المائة بحلول عام 2030. وسيعني ذلك، أنه في أشد الدول هشاشة سيظل معدل الفقر مرتفعا جدا: 47 في المائة من السكان. وتُركَّز كل أوروبا وكل ألمانيا بحق على أزمة اللاجئين في القارة اليوم، ولكن إذا ظل 47 في المائة من السكان في الدول الهشة يعيشون على أقل من 2 يورو للفرد في اليوم بحلول عام 2030 مع ازدهار العالم المتقدم فإن تدفق المهاجر ين واللاجئين لن يتوقف.
وبقدر ما تبدو أزمة اللاجئين هائلة في الوقت الحالي، ينبغي ألا ننسى أن العالم يواجه مخاطر وتهديدات أخرى كبيرة من شأنها إلحاق الضرر بالبلدان النامية والمتقدمة على السواء – واثنان من أشد هذه المخاطر إلحاحا هما: تغيُّر المناخ وخطر حدوث وباء في المستقبل.
وترى مصادر موثوق بها أن نوبات الجفاف المتعاقبة في سوريا لعبت دورا في الأزمة الحالية، ولا شك في أن تغيُّر المناخ يسهم في ازدياد التوترات وفقدان سبل كسب الرزق في كثير من أجزاء العالم بسبب ندرة المياه وارتفاع موجات المد وتزايد أعداد الظواهر المناخية الشديدة.
وحطَّمت درجات الحرارة العالمية في شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط أرقاما قياسية. وأظهرت بيانات جمعتها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا أن متوسط درجات حرارة سطح البحر في العالم في فبراير/شباط كان يزيد 1.35 درجة مئوية عن متوسط الحرارة لهذا الشهر في فترة سابقة مدتها 30 عاما، وهو هامش أكبر كثيرا من أي وقت مضى. وحتى منطقة القطب الشمالي كانت دافئة، ففي أواخر ديسمبر/كانون الأول قاربت الحرارة درجة صفر مئوية أو ما يزيد 30 درجة مئوية عن المتوسط.
وقبل انعقاد مؤتمر قمة المناخ للدول الأطراف في باريس في ديسمبر/كانون الأول، تعهدت مجموعة البنك الدولي بزيادة التمويل للأنشطة المناخية، بما يصل إلى الثلث بحلول عام 2020 – أو ما يصل إلى 29 مليار دولار سنويا. وأدهش زعماء العالم حتى المتفائلين باتفاقهم في مؤتمر الأطراف على انه يجب أن يتطلع العالم إلى إبقاء درجات الحرارة العالمية دون مستوى درجتين مئويتين فوق حرارة ما قبل الثورة الصناعية. ويرجع الفضل إلى المستشارة ميركل ومعها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والرئيس الفرنسي فرانسوا أولوند، والرئيس أوباما وآخرين في الدعوة وحث الكثير من الحكومات والمؤسسات ومنها مجموعة البنك الدولي على أن يؤدي كل منهم دوره.
والآن وبعد التوقيع على الاتفاق، يجب أن نعمل على وجه السرعة وبشكل غير مسبوق إذا أردنا أن نحقق الأهداف المتوخاة. لقد تعلَّمت من رحلتين في الآونة الأخيرة إحداهما إلى باكستان والأخرى إلى فييتنام، أنه يجب علينا أن نتحرك بشكل أسرع عما كنت أعتقد... لقد تحركت فييتنام وباكستان قدما في تنفيذ خطط لبناء محطات توليد كهرباء باستخدام الفحم - ففي فييتنام، تخطط الحكومة إضافة 40 جيجابايت من الطاقة الكهربائية المركبة باستخدام الفحم، وهو ما يعادل تقريبا نصف حجم موارد الطاقة المتاحة حاليا في أفريقيا جنوب الصحراء. لماذا؟ لأن سعر الكهرباء المولدة باستخدام الفحم أقل في الوقت الحالي من الكهرباء المنتجة من مصادر الطاقة المتجددة - ما بين 9 و 10 سنتات لكل كيلووات ساعة بالنسبة للفحم، وما بين 11 و 12 سنتا بالنسبة للطاقة الشمسية والريحية في البلدين. وفي المكسيك وبيرو والإمارات العربية المتحدة، والعديد من الأماكن الأخرى بالعالم، أوضحنا أن بإمكاننا - باستخدام التمويل المبتكر الذي يجتذبه القطاع الخاص - المساعدة في التحول إلى الطاقة الأنظف عن طريق إتاحة حوافز مالية كبيرة للقيام بذلك. وفي بيرو، استطعنا التوقيع على اتفاق تصل تكلفة الكهرباء في إطاره إلى 4.8 سنت لكل كيلووات ساعة، وفي المكسيك، أبرمت مؤسسة التمويل الدولية، وهي ذراع المجموعة للتعامل مع القطاع الخاص، اتفاقا للتو تصل تكلفة الكهرباء المنتجة من الطاقة الشمسية في إطاره إلى 3.2 سنت لكل كيلووات ساعة. في فييتنام وباكستان، نتعامل مع هذا الوضع بإلحاح كبير، إذ نحث زعماء البلدين على إعادة النظر في مصادر الطاقة المتجددة، وذلك إذا كان باستطاعتنا نحن وآخرين المساعدة في خفض سعر الطاقة المتجددة. علاوة على ذلك، يمكن توفير الطاقة الشمسية والريحية بوتيرة أكثر سرعة من الكهرباء المولدة باستخدام الفحم – ونعني هنا أشهرا بدلا من سنوات، مما يعني أن بالإمكان زيادة فرص الحصول على الكهرباء للناخبين خلال "هذه" الدورة السياسية، وليست الدورة التالية.
فما الذي يحول بيننا وبين ذلك؟ لم نتوصل بعد إلى اتفاق حول كيفية استخدام تعهدات الموارد المالية الخاصة بالمؤتمر الحادي والعشرين للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، وسنحتاج إلى المساعدة من البلدان المانحة إذا أردنا تقديم المزيد من التمويل الميسر إلى بلدان كباكستان وفييتنام. وعلى الرغم من أن المباحثات مازالت جارية، فإن نافذة التحرك لتنفيذ تدابير التخفيف تلك في الوقت المناسب لتحقيق أهدافنا سرعان ما تغلق.
وعن مخاطر الأوبئة، وجد مسح استقصائي شارك فيه 30 ألفا من خبراء صناعة التأمين في أنحاء العالم أن الأوبئة جاءت على رأس قائمة المخاطر الشديدة على الأجل الطويل التي تهم صناعة التأمين. ويُذكِّرنا وباء الإيبولا والآن وباء زيكا جميعا بأننا لم نقترب من الاستعداد الكافي لمجابهة وباء أسرع انتشارا. ماذا لو حدث اليوم وباء سريع وفتَّاك مثل الإنفلونزا الإسبانية التي أصابت العالم عام 1918؟ أظهرت نماذج المحاكاة أنه سيوجد في كل المراكز الحضرية في العالم في غضون شهرين، وقد يؤدي إلى وفاة عشرات الملايين من البشر، وفقْد ما يصل إلى خمسة في المائة من إجمالي الناتج المحلي أو نحو أربعة تريليونات دولار.
لقد طلبت منا المستشارة ميركل، ورئيس وزراء اليابان السيد آبي، وغيرهما من قادة العالم أن نعمل على بلورة آلية تمويل للتصدي للجوائح والأوبئة. ونحن نعلم أننا بحاجة إلى (1) مصادر تمويل سمكن تعبئتها سريعا؛ (2) نظم وطنية للرعاية الصحية قادرة على الاستجابة لحالات تفشِّي الأمراض، و (3) مستوى التنسيق الدولي الذي لم نشهده حتى الآن. وعلى مدى العام الماضي، استطعنا جمع أعضاء سبعة فرق مختلفة لمجموعة البنك الدولي – خبراء في مجالات الرعاية الصحية، والزراعة والقطاع الخاص، وعمليات إدارة الخزانة، وتمويل التنمية والتأمين والاتصالات، وذلك من أجل العمل على نحو وثيق مع منظمة الصحة العالمية ووكالات أخرى للأمم المتحدة، والهيئات القائمة على وضع نماذج الأمراض المعدية، وشركات إعادة التأمين وخبراء سلاسل التوريد والحكومات وجماعات المجتمع المدني. وكانوا يُصمِّمون ما نسميه صندوق التمويل الطارئ لمواجهة الأوبئة الذي نعتزم أن نطلقه في وقت لاحق هذا الربيع.
وسيسد هذا الصندوق ثغرة كبيرة في نظام التمويل الدولي كشفت عنها أزمة الإيبولا. ولمكافحة الإيبولا، فقد استغرق العالم أشهرا عديدة بعد الاعتراف الأولي بتفشي المرض قبل أن يتمكن من التحرك على نطاق واسع. والآن، لدينا جميعا نظام يستخدم آلية مبتكرة تستند إلى التأمين مع وجود مجموعة شفافة ومحددة مسبقا من المعايير لتفعيل الاستجابة. وفور ظهور إشارات قياسية محددة، سيصرف صندوق التمويل الطارئ لمواجهة الأوبئة الأموال اللازمة خلال أيام للبلدان النامية والمؤسسات الدولية لتساعد على وقف تفشِّي الوباء. وسنقوم أساسا بإنشاء نظام استجابة سيتكلَّف ملايين الدولارات سنويا ويمكنه إنقاذ مئات الآلاف من الناس، إن لم يكن الملايين منهم وتوفير المليارات من الدولارات إن لم يكن التريليونات.
لقد تحدثت عن ثلاثة مخاطر عالمية كبيرة تؤثر فينا جميعا وهي التشرد والنزوح القسري وتغيُّر المناخ، والأوبئة. ولكن هناك خطرا آخر لم يحظ باهتمام كاف من العالم ، وهو بصراحة القضية الأكثر خطورة لجميع العاملين في مجال التنمية: المعدلات المرتفعة للتقزُّم بين الأطفال في البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل. وتشير الإحصاءات الدولية إلى ما بين 30 و45 في المائة (تذهب بعض التقديرات إلى أن هذه النسبة ترتفع إلى 70 في المائة في بعض البلدان) من الأطفال في الكثير من البلدان الأفريقية والآسيوية تقل الوصلات العصبية في أدمغتهم عن زملائهم الذين لا يعانون منه.
وآثار التقزُّم تستمر مدى الحياة لا على الفرد فحسب، وإنما للبلدان أيضا. فكيف ستتنافس البلدان فيما سيكون بالتأكيد اقتصادا عالميا يغلب عليه الطابع الرقمي في المستقبل إذا كان 30 إلى 45 في المائة من أطفالها لا يملكون الوصلات العصبية في أدمغتهم مقارنة بنظرائهم في البلدان الأخرى التي يلزم أن يتنافسوا معها؟
يقول البعض إن المشكلة بالغة الصعوبة، أو أنه توجد عوامل كثيرة يجب علينا معالجتها قبل أن يمكننا تحقيق أي تقدم، ولكن ليس هذا صحيحا على الاطلاق. فمن الواضح أنه بالتدخلات في مرحلة الطفولة المبكرة مثل التغذية الصحيحة والمحاكاة وتوفير بيئة آمنة يمكن تخفيض معدل التقزم بدرجة كبيرة في فترات زمنية قصيرة نسبيا. ففي بيرو، على سبيل المثال، بعد عقود من المحاولة وتحقيق قدر ضئيل من التقدم، استطاعت السلطات خفض معدل التقزُّم بمقدار النصف من 28 في المائة إلى 14 في المائة في خلال ثماني سنوات فحسب بإقناع الآباء والقادة أن طول أطفالهم أمر مهم. واستحدثت السلطات حوافز للأسر للحصول على خدمات التغذية، وكذلك تشجيع الأمهات على التفاعل مع أطفالهم، وتحسين البيئات لبعض المنازل.
وكانت ثمرة هذه الجهود هائلة. ووجدت دراسة حول زيادة معدلات الالتحاق برياض الأطفال في 73 بلدا أن كل دولار يستثمر في مرحلة رياض الأطفال يعود بمردود يبلغ 17 دولارا من حيث الحصول على أجور أعلى في المستقبل.
ومن بين كل استثماراتنا في البنية التحتية، أعتقد أنه الاستثمارات في البنية التحتية للإنسان نفسه قد تكون الأهم لنا جميعا. فالبنية التحتية العصبية هي أهم بنية تحتاج إليها البلدان في مواجهة مستقبل يحفه الغموض، سيعتمد فيه النمو الاقتصادي بدرجة أكبر كثيرا على الكفاءة الرقمية في اقتصاد موجه على نحو متزايد نحو الخدمات وبدرجة أقل على الوظائف ذات المهارات المتدنية في الزراعة والصناعات التحويلية. وهي تثير أيضا تساؤلات بشأن مبادئنا الأخلاقية الأساسية. وما فتأ الكثيرون منها يقولون باقتناع شديد إننا نؤمن بتكافؤ الفرص للجميع، لكن هذا شعار أجوف إذا كان بلد ما يعاني 45 في المائة من أطفاله من التقزُّم. ولذلك، أوجه دعوة إلينا جميعا أن نبدأ التحرك من أجل إنهاء التقزم بين الأطفال حتى يمكننا بناء مجتمعات قادرة على مجابهة الصدمات تنمو وتفيد الجميع.
دعوني أختم كلمتي بالقول إنه في هذا العالم سريع التغيُّر، يزداد عدد المخاطر وهي عالمية على نحو متزايد. ولا يمكننا تجاهلها. وعلينا أن نتحرك. وعلى حد تعبير المحامي والروائي والشاعر والسياسي جوهان فولفغانغ فون غوته "المعرفة لا تكفي فيجب علينا تطبيقها والإرادة لا تكفي ويجب علينا الفعل." ونحن بمجموعة البنك الدولي ندرك هذه الأخطار، وقد أدخلنا تغييرات في مؤسستنا خلال السنوات القليلة الماضية، ونحن الآن في وضع أفضل للتصدي لهذه الأخطار العالمية.
ولن ننسى أبدا أن مجموعة البنك الدولي مؤسسة تعاونية من البلدان، وأن دورنا هو العمل مع البلدان المتعاملة معنا كي تتمكن من تحقيق أسمى طموحاتها. لكن من الواضح تماما الآن أننا لن نتمكن من إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك إذا لم نتصدى بالاشتراك مع البلدان الأعضاء للمخاطر والتهديدات العالمية كتفشي الأوبئة وتغير المناخ والتشرد القسري في مختلف أنحاء العالم.
شكراً جزيلاً لكم.