الكلمة بالصيغة المعدة للإلقاء
كلمة رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس في معهد ستانفورد لأبحاث السياسات الاقتصادية
شاهد التسجيل الكامل للخطاب.
إنه لمن دواعي سروري أن أكون هنا معكم في ستانفورد. وشكراً لمعهد ستانفورد لأبحاث السياسات الاقتصادية ولمركز ستنافورد كينغ للتنمية العالمية على الدعوة.
وإذ نلتقي في هذا المعهد المرموق، يواجه الاقتصاد العالمي، ولاسيما بلدان العالم النامية واقعاً مريراً. فقد تضافرت سلسلة من الأحداث القاسية وسياسات الاقتصاد الكلي غير المسبوقة لتهوي بعملية التنمية في خضم أزمة. وكانت لهذا الوضع آثار وتداعيات علينا جميعا بسبب الطبيعة المترابطة التي يتسم بها الاقتصاد العالمي والحضارات في أنحاء العالم.
إن رسالة مجموعة البنك الدولي هي تخفيف وطأة الفقر وتعزيز الرخاء المشترك. ونحن نستخدم حقوق الملكية للبلدان المساهمة ومساهماتهم السنوية في تقديم منحٍ وقروض للبلدان النامية لمساعدتها في تحديد التحديات الإنمائية والتصدي لها. وقد شهد ما نقدمه من تمويل للبلدان النامية زيادةً كبيرة في السنوات الأخيرة، لاسيما التمويل المرتبط بالعمل المناخي الذي وصل إلى 31.7 مليار دولار في السنة المالية 2022.
مما يبعث على القلق بشأن رسالتنا أن تقريرنا القادم المعنون "الفقر والرخاء المشترك" يشير إلى أن التدهور في مسيرة التنمية بدأ قبل تفشي جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) بوقت كبير. ويُظهِر التقرير أن معدلات الفقر كانت تتناقص باطراد خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي، وأن هذا التقدم قد تباطأت وتيرته بحلول عام 2015، وازداد عدد الفقراء فقراً مدقعاً بنحو 70 مليونا حينما حلَّت الجائحة. ويُظهر التقرير أيضا انخفاضاً نسبته 4% في وسيط الدخل في العالم، وهو أول انخفاض منذ بدأت قياساتنا لوسيط الدخل في 1990.
العواقب الإنسانية للأزمات المتداخلة
تشوب آفاق مستقبل بلدان العالم النامية في الأمد القريب تحدياتٌ جسيمة من جراء الارتفاع الحاد لأسعار الغذاء والأسمدة والطاقة، وأسعار الفائدة وفروق العائد المتزايدة، وانخفاض قيمة العملات، وخروج التدفقات الرأسمالية. وفي ظل السياسات الحالية، فإن تنويع إمدادات الطاقة العالمية بعيدا عن روسيا قد يستغرق سنوات، الأمر الذي يطيل أمد مخاطر الركود التضخمي التي ناقشها تقرير البنك الدولي المعنون الآفاق الاقتصادية العالمية في يونيو/حزيران 2022.
لقد أصابت موجات الصدمة هذه عملية التنمية في وقتٍ يواجه فيه كثيرٌ من البلدان النامية أيضا تحدياتٍ في مجالات أخرى: الحوكمة وسيادة القانون، والقدرة على الاستمرار في تحمُّل الديون، والتكيف مع تغير المناخ وتخفيف آثاره، ومحدودية الحيز المتاح للإنفاق في موازين المالية العامة للتغلب على الانتكاسات الحادة في عملية التنمية من جراء جائحة كورونا، بما في ذلك في مجالات الرعاية الصحية والتعليم.
إن العواقب الإنسانية لهذه الأزمات المتداخلة كارثية. وقد تضررت البلدان والشعوب في أنحاء العالم من جائحة كورونا التي أدَّت وحدها إلى وفاة أكثر من ستة ملايين شخص، والصراعات الجيوسياسية، والظواهر المناخية بالغة الحدة، وتحمَّل الفقراء لاسيما النساء والفتيات القسط الأكبر من وطأة هذه الأوضاع.
تظهر الشواهد التي استخلصها البنك الدولي أن 70% من الأطفال في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل يعانون فقر التعلم، وهو نسبة الأطفال الذين يعجزون في سن العاشرة عن قراءة نص بسيط أو فهمه. وأدَّت جائحة كورونا إلى تفاقم أزمة التعلم العالمية، وتسبَّبت في أشد صدمة تصيب عملية التعليم والتعلم في التاريخ المعاصر. علاوةً على ذلك، تلوح في الأفق نذر تحديات جديدة من جراء الضغوط الديمغرافية: فبحلول عام 2030، وفقاً للتوقعات السكانية في العالم الصادرة عن الأمم المتحدة، سيعيش في المتوسط أكثر من طفل واحد من كل أربعة أطفال في سن التعليم الابتدائي في أفريقيا جنوب الصحراء، وهي المنطقة التي تشهد أكبر معدلات فقر التعلم. ويشير هذا إلى أن الأنظمة التعليمية أبعد ما تكون الآن عن بلوغ هدف توفير التعليم الجيد للجميع.
وقد خلَّفت الفيضانات التي أصابت باكستان في الآونة الأخيرة أكثر من 1500 قتيل. وتعصف نوبات القحط والجفاف بمنطقة القرن الأفريقي وفي أمريكا الجنوبية، فتُؤثِّر على إنتاج الأغذية وتوليد الطاقة المائية، وتصيب تسعة ملايين شخص آخرين بنقص حاد في الأمن الغذائي في أنحاء إثيوبيا وكينيا والصومال وحدها. وتتعرَّض البلدان النامية لكوارث مرتبطة بتغير المناخ أكثر تواتراً وأشد حدة. وتتسبب انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن الأنشطة البشرية في تغير المناخ الذي يخلف تداعيات مأساوية على التنمية من عدة نواحٍ. وتشتد الحاجة إلى التكيف من قِبَل البلدان والشعوب التي تضررت من جراء تغير المناخ، وإلى تقليص انبعاثات غازات الدفيئة. وتَحظى هذه الطائفة من التحديات بأكبر نصيب من موارد مجموعة البنك الدولي وتركيزها. ولم تُقدِّم مجموعة البنك تمويلا لمشروعات فحم جديدة منذ عام 2010، وتعمل جاهدة مع البلدان النامية والشركاء في المجتمع الدولي لتغيير مسار الاتجاه نحو زيادة استخدام أنواع الوقود عالية الانبعاثات الكربونية. ولكن بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، ومحدودية إمدادات الغاز الطبيعي وارتفاع أسعاره، يجري حالياً تأجيل إغلاق محطات الطاقة التي تعمل بالفحم في شتَّى أرجاء العالم، وتسارعت أنشطة تعدين الفحم.
وفي مواجهة هذه الأزمات المتداخلة، تواجه بلدان العالم النامية خطراً مُلحاً يتمثل في أن التباطؤ الحاد للنمو العالمي يزداد ليصل إلى حالة ركود عالمي كما أشار البنك الدولي في تقرير له صدر في سبتمبر/أيلول. ولم يكد نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي العالمي في 2021 يفوق مستواه قبل الجائحة، لكن كثيراً من البلدان النامية لم يصل فيها متوسط نصيب الفرد من الدخل إلى مستويات ما قبل الجائحة. وقد شهدت الولايات المتحدة انكماش إجمالي ناتجها المحلي في الربعين الأول والثاني من عام 2022. وللتراجع الحاد في أسعار الأصول في أنحاء العالم آثار وتبعات على الميزانيات العمومية للشركات ومعاشات التقاعد وقد يُثنِي عن القيام باستثمارات جديدة. وقد تباطأ نمو اقتصاد الصين بشدة بسبب الإغلاقات الناجمة عن الجائحة، الأمر الذي هوى بتنبؤ البنك الدولي في 2022 للنمو في الصين إلى 2.8% من 5% في أبريل/نيسان. وتواجه أوروبا الارتفاع المفاجئ لأسعار الطاقة الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا وأوجه جمود السوق. ويزيد ضعف اليورو والزيادة الكبيرة لمعدلات التضخم من احتمال حدوث ركود في أوروبا، ويضع مزيدا من القيود على آفاق مستقبل النمو الأطول أجلاً في منطقة اليورو.
استشرافاً للمستقبل بعد هذا الركود الدوري الحاد، تواجه البلدان النامية خطر أن تستمر هذه الاتجاهات في الاقتصادات المتقدمة بعد 2023 - التضخم، وتباطؤ النمو، وانخفاض الإنتاجية، واستنزاف إمدادات الطاقة العالمية، وارتفاع أسعار الفائدة. وإذا أصبحت السياسات المالية والنقدية الحالية هي "الواقع المعتاد" الجديد، فإنها تُنبِئ بأن حكومات البلدان المتقدمة ستستحوذ على رؤوس الأموال العالمية مُتسبِّبة في إطالة أمد نقص الاستثمار في البلدان النامية وعرقلة تحقيق النمو في المستقبل. وقد كان هذا موضوع كلمتي في ندوة تشرشل بجامعة زيوريخ في مايو/أيار والتي تركَّزت على الركود التضخمي، وسوء تخصيص رؤوس الأموال وتكلفة إعادة تنظيم أوضاع الطاقة في أوروبا.
تمثل تحديات الاقتصاد الكلي التي تواجهها التنمية نتيجة منطقية مُترتبة على ذلك، وستتفاقم على الأرجح. وسأتطرق مرة أخرى إلى ذلك الأمر بعد لحظات، لكنني أود أن أُشير إلى أنه توجد جوانب أخرى كثيرة لأزمة التنمية تتطلب أيضا بذل جهود عالمية. ومن هذه الجوانب التدفق المُدمِّر للأسلحة على أفريقيا، وما يتبعه من هشاشة للأوضاع السياسية، والتكيف مع تغير المناخ، والحد من انبعاثات غازات الدفيئة، والعنف والحرمان الذي تتعرض له النساء والفتيات، والانتكاسات الحادة في مجالات التعليم والرعاية الصحية، والقدرة على الاستمرار في تحمُّل أعباء الدين التي أشرتُ إليها آنفاً. وتعمل مجموعة البنك الدولي على نطاق واسع في كلٍ من هذه المجالات، وأود أن أتوقف لبرهة لأسلِّط الضوء على هذا العمل وأشكر موظفينا.
ولمكافحة هذه الأزمات، استجابت مجموعة البنك الدولي على وجه السرعة ونطاق واسع وبشكل مُؤثِّر بدرجة لم يسبق لها مثيل، إذ قدَّمت مستوى قياسيا من التمويل بلغ 115 مليار دولار في السنة المالية 2022. وارتبطنا بتقديم دفعات متتالية من التمويل والدعم التحليلي والمشورة بشأن السياسات أولاً للتصدي لجائحة كورونا والآن لمعالجة أزمة الغذاء والطاقة والحرب في أوكرانيا وتداعياتها غير المباشرة. لقد أدَّت الحرب التي تسبَّبت فيها روسيا إلى إزهاق الأرواح وجلبت الخراب والدمار. وقام البنك الدولي بتعبئة 13 مليار دولار من التمويل الطارئ من جهات ثنائية وشركاء التنمية، بالإضافة إلى 11 مليار دولار صُرِفت بالفعل من خلال مشروعاتنا وصناديقنا الاستئمانية.
في إطار مكافحة تغيُّر المناخ، تُعد مجموعة البنك الدولي أكبر مُموِّل منفرد متفوقةً على الآخرين بمراحل في التمويل المرتبط بالعمل المناخي في بلدان العالم النامية، وتؤدي دورا رائدا في الدراسات التشخيصية لتغير المناخ، والحد من انبعاثات الميثان، والتمويل المناخي المبتكر. ونحن أيضاً أكبر مُموِّل خارجي للتعليم في البلدان النامية، وذلك غالباً من خلال المنح والقروض المُيسَّرة للغاية التي تقدمها المؤسسة الدولية للتنمية، وهي صندوق البنك الدولي لمساعدة البلدان الخمسة والسبعين الأشد فقراً في العالم، والصناديق الاستئمانية ذات الصلة. والتحديات الصحية بالمثل جسيمة، ومن ذلك الحاجة إلى طائفة واسعة من اللقاحات المنقذة للحياة والتأهب لمجابهة الأزمات الصحية في المستقبل. وبدعم وقيادة قويين من الولايات المتحدة، قمنا للتو بتدشين صندوق استئماني جديد للوقاية من الجوائح والتأهب لمواجهتها والتصدي لها سيعمل على تقييم وتدعيم التأهب في قطاع الصحة في أنحاء بلدان العالم النامية. ويستلزم كلٌ من هذه التحديات والأزمات اهتماماً عالميا عاجلاً والكثير من الموارد.
سياسات مالية عامة ونقدية غير مسبوقة لمواجهة الأزمات
تتركَّز بقية كلمتي اليوم على التحدي المتصل بالاقتصاد الكلي – أي المفاضلة بين سياسات المالية العامة والسياسات النقدية في الاقتصادات المتقدمة، وما يخلقه هذا من تحديات للاستقرار والاستثمار في البلدان النامية. ومعهد ستانفورد لأبحاث السياسات الاقتصادية محفل مهم لهذه المناقشة، وإنني أُعرب عن عميق تقديري لاهتمامكم.
إن جوهر أزمة الاقتصاد الكلي التي تواجه عملية التنمية هو التغيّر الهائل في سياسات المالية العامة والسياسات النقدية والتنظيمية المالية للاقتصادات المتقدمة منذ الأزمة المالية في 2008. فالسياسات النقدية خلال السنوات العشر الماضية كانت توجِّه رؤوس الأموال إلى قطاعات تتمتع بمستوى جيد من الرسملة في الاقتصاد العالمي - إلى الحكومات والشركات التي تُصدِر السندات، والأفراد الأثرياء - على حساب النمو والتنمية عريضي القاعدة. وظل إجمالي تكوين رأس المال الثابت راكدا في البلدان النامية على الرغم من ارتفاع أسعار الأصول في الاقتصادات المتقدمة. ويخلق احتمال استمرار هذه السياسات خطر عقودٍ من نقص الاستثمار في التنمية. وتبرز في هذا الصدد أربع نقاط: أولا، حجم التغير في سياسة الاقتصاد الكلي؛ وثانيا، ضخامة حجم السياسات؛ وثالثا، تأثير تخصيص رأس المال في العالم؛ ورابعا، خطر أن تصبح هذه السياسات دائمة وتعوق عملية التنمية.
وابتداء من عام 2008، اتبعت الاقتصادات المتقدمة سياسات نقدية جديدة تماماً لمكافحة الأزمة المالية العالمية. وحدَّدت البنوك المركزية أسعار الفائدة عند مستوى الصفر أو أقل، واشترت سندات بتمويل مما تراكم لديها من احتياطيات فائضة في الجهاز المصرفي. وساعدت هذه الأنشطة التي تُركِّز على معالجة الأزمة على احتواء تأثير الانهيار المالي. ولكن على حد قول لاري سمرز في 2021 "...إن بداية الحكمة تتمثَّل في إدراك أن وصفة التيسير الكمي لا تبدو منطقية اليوم."
كانت سنوات من أسعار الفائدة المنخفضة للغاية، والتوسع الهائل للقاعدة النقدية التي يتحكم فيه التنظيم الشامل للائتمان بمثابة نظام نقدي جديد تماماً. في الواقع، لقد أفسحت النظرية النقدية الطريق أمام مرحلة ما بعد انحسارها، والتي أصبحت فيها خصائص تنظيم الائتمان واختيار البنوك المركزية لحيازات من السندات أكثر أهمية من المعروض من النقود. واتسعت القاعدة النقدية أضعافاً مُضاعفة خلال العقد الأول لتطبيق هذه السياسة الجديدة دون أن تكون لها عواقب تضخمية لأن السياسة التنظيمية حدَّت من تضاعف المعروض النقدي الذي كان يمكن أن يحدث في ظل النظام القديم لنسبة الاحتياطي النقدي الإلزامي. وساعد هذا على الاستقرار النسبي للعملات، لكنه جعل التضخم عرضةَ للتأثُّر باضطرابات سلاسل الإمداد والتوسع في سياسة المالية العامة.
سأذكر ثلاثة آثار جانبية لهذه السياسات الجديدة. أولاً، مع تناقص العوائد تحت ضغط مشتريات البنوك المركزية من السندات (أو في حالة اليابان وضع حد أقصى للعوائد عند مستوى منخفض جدا)، يأتي البحث عن عائد يساند الأسعار المرتفعة في أسواق أصول مُعيَّنة مثل العقارات والسندات. ويتيح الإبقاء على هذه السياسات النقدية فتراتٍ طويلة لأسعار الأصول أن تنحرف عن قيمها الأساسية. وفي البلدان النامية، أدَّى هذا إلى انخفاض عوائد السندات الحكومية وتكاليف الاقتراض واجتذاب رؤوس الأموال إلى أنشطة غير إنتاجية. ولكن نقص رأس المال العامل اللازم لتمويل التجارة، والتمويل قصير الأجل كنسبة متزايدة من الأصول قصيرة الأجل للبنوك الدولية أصبح بمثابة قروض بفائدة للبنوك المركزية.
ثانياً، حدَّت بيئة التمويل التي تتميز بأسعار فائدة منخفضة ولآجال طويلة من حوافز منشآت الأعمال لإصلاح مراكزها المالية، وحوافز الحكومات للسعي من أجل إصلاحات هيكلية. وتُظهِر الشواهد المستقاة أن برامج المشتريات واسعة النطاق شجَّعت على وجود بنوك ومنشآت أعمال زومبي أي شبه ميتة، وهو ما يعني أن التدمير الخلاق لا يحدث، مما يضر بإمكانات الاقتصاد لتحقيق النمو. ويُظهِر بحث لبنك التسويات الدولية أن نسبة الشركات الزومبي - تلك التي تبلغ نسبة القيمة السوقية لأصولها إلى تكلفة استبدالها أقل من الوسيط داخل القطاع الذي تنتمي إليه- في الاقتصادات المتقدمة زادت من 5% في عام 2000 إلى أكثر من 12% في 2018، وهو سوء تخصيص لرؤوس الأموال يحد من نمو الإنتاجية ويرفع تكلفة رأس المال اللازم لتحقيق التنمية السليمة.
وثمة مثال ثالث لزيادة سوء تخصيص رؤوس الأموال يمكن ملاحظته في السوق الأمريكية لقطاع سندات الشركات ذات المرتبة الاستثمارية. فبين عامي 2008 و2020، زادت المبالغ المستحقة من السندات التي تحمل تصنيف ( BBB) أكثر من ثلاثة أضعاف إلى 3.5 تريليونات دولار تُمثِّل 55% من جميع أدوات الدين المُصنَّفة في المرتبة الاستثمارية في عام 2020 صعوداً من 33% في 2008. وأدَّى التركيز المتنامي للإصدار في السندات ذات التصنيف الاستثماري الأكثر خطورة إلى زيادة مواطن الضعف والقصور في قطاع الشركات. وتجلَّى هذا الضعف في بداية جائحة كورونا حينما كان عدد تخفيضات التصنيفات الائتمانية من مرتبة BBB أكبر من ضعفي ما كان عليه في أثناء الأزمة المالية في 2008 بأسرها. وهذا الضعف هو أحد الأسباب التي اضطرت مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي (البنك المركزي) إلى التدخل للعمل على استقرار سوق سندات الشركات الأمريكية في أعقاب صدمة الجائحة.
وفي أثناء جائحة كورونا، تحركت البنوك المركزية الكبرى بقوة نحو اتباع نهج ما بعد النظرية النقدية من خلال مشترياتها الكبيرة من سندات ذات آجال استحقاق طويلة. وزادت الميزانية العمومية لمجلس الاحتياطي الاتحادي زيادة صاروخية من 4.2 تريليونات دولار في مارس/آذار 2020 إلى نحو 9 تريليونات بعد ذلك بعامين. وزادت الميزانيات العمومية للبنوك المركزية لمنطقة اليورو من 4.7 تريليونات يورو إلى 8.7 تريليونات يورو بفعل شراء سندات حكومات منطقة اليورو. وتزداد كل أسبوع حيازة بنك اليابان المركزي من السندات، إذ أبقى على معدل العائد لأجل 10 سنوات عند 0.25% في أثناء ضعف الين وازدياد التضخم العالمي. ونتيجةً لذلك، زادت السلطات النقدية للاقتصادات المتقدمة محافظها إلى أكثر من 20 تريليون دولار من السندات الحكومية لمساندة تلك الأسواق على الأسواق الأخرى.
والآن، بعدم تجديد السندات التي يحين أجل استحقاقها، يُقلِّص مجلس الاحتياطي الاتحادي ميزانيته العمومية شهرا بعد شهر. وقد أثار هذا مخاوف بشأن السيولة في سوق السندات الأمريكية، ولكن حتى بوتيرة التنفيذ الحالية سيستغرق البنك المركزي أكثر من أربع سنوات لتعود ميزانيته العمومية إلى ما كانت عليه قبل جائحة كورونا.
والأهم من ذلك، أنه ظهر مفهوم جديد للعودة إلى السياسة العادية يسعي فيه مجلس الاحتياطي الاتحادي إلى الحفاظ على احتياطيات البنوك كنسبة مئوية مُعيَّنة من إجمالي الناتج المحلي. وكانت المفاهيم السابقة للعودة إلى السياسة النقدية العادية تفترض التخلص من حيازات مجلس الاحتياطي من السندات وما يرتبط به من تقليص احتياطيات البنوك. واليوم تشير عملية العودة إلى السياسة العادية والتوقعات الواردة في تقرير عمليات السوق المفتوحة لمجلس الاحتياطي الاتحادي في مايو/أيار إلى ضخامة صافي العقود الآجلة وإجمالي مشتريات مجلس الاحتياطي الاتحادي من السندات الحكومية في وقت لاحق من هذا العقد، الأمر الذي يجعل اختيارها من السندات وسعر الفائدة على الاحتياطات المستخدم في الاحتفاظ بها مسألتين حيويتين للتنمية ولتدفق رؤوس الأموال في العالم.
لا شك أن سياسة المالية العامة تشهد تحوُّلاً جذريا نحو زيادة الدين العام في الاقتصادات المتقدمة. وكانت لهذا الوضع تداعيات كبيرة على أسواق رأس المال في أنحاء العالم حيث تتدفق المدخرات المتاحة على السندات الحكومية. وفي أثناء الجائحة، اقترضت الحكومات بكثافة من المدخرين في أنحاء العالم، وكان القصد دوما تقريبا هو مساندة الاستهلاك أكثر من الإنتاج. وساند معظم هذا الإنفاق أو تخفيض الضرائب الاقتصادات المتقدمة، ودعَّم في الغالب استهلاك أناس تزيد دخولهم بدرجة كبيرة عن وسيط الدخل. وزاد الطلب بخطى أسرع من المعروض، وهو اختلال ازداد وضوحا حينما بدأت سلاسل الإمداد التنويع بعيدا عن الصين، وحينما بدأ التعافي وإعادة بناء المخزون في مرحلة ما بعد كورونا.
وفيما يتصل بالتنمية، تضافرت عوامل الإنفاق الحكومي الكبير، وإصدار السندات الحكومية، ومشتريات البنوك المركزية من السندات لتؤدي إلى تخصيص مبالغ متزايدة من رؤوس الأموال العالمية لفئة ضيقة. ويؤدي شراء وحيازة السندات من قِبَل البنوك المركزية إلى تخصيص رؤوس الأموال من صغار المدخرين إلى قطاعات تتمتع بمستويات رسملة مفرطة في الاقتصادات المتقدمة. وتتسم اللوائح التنظيمية للبنوك بتحيز واضح يتمثل في أن ديون حكومات البلدان المتقدمة ذات مخاطر صفرية، أمَّا الديون الأخرى، لاسيما للبلدان الصغيرة، البلدان النامية أو الداخلين الجدد إلى السوق فإنها تُعد محفوفة بالمخاطر وتتطلب رسملة حقوق الملكية في البنوك.
ويتمثل التحدي الذي تواجهه عملية التنمية فيما إذا كانت رؤوس الأموال العالمية ستكفي لتمويل احتياجات رأس المال لحكومات البلدان المتقدمة ويكفي ما يتبقى لتلبية الاحتياجات الاستثمارية للبلدان النامية.
في عام 1990، طرح بوب لوكاس لغزاً (عُرِف فيما بعد بمفارقة لوكاس) بإظهار أنه على الرغم من أن البلدان الفقيرة لديها مستويات أقل من رأس المال لكل عامل مقارنة بنظيرتها في البلدان الغنية - ومن ثمَّ يمكنها تحقيق عائد أعلى لرأس المال المضاف، - فإن رأس المال لا يتدفق كما ينبغي من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة. وعلى النقيض من ذلك، تتدفق رؤوس الأموال بوجه عام من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية. وقد قدمت الدراسات والبحوث عدة تفسيرات لهذه المفارقة تتراوح من عدم كمال سوق رأس المال ونواقصه، إلى المؤسسات، أو المخاطر السياسية، أو العوامل الخارجية لرأس المال البشري.
يبدو أن تدابير التيسير الكمي عدَّلت هذه المفارقة، ولو ظاهريا على الأقل. فقد ساعدت هذه التدابير على تخفيف الإحجام عن تحمل المخاطر على مستوى العالم، وخفض تكاليف الاقتراض للأسواق الصاعدة. وانهالت تدفقات كبيرة من رؤوس الأموال من الاقتصادات المتقدمة إلى البلدان النامية. وتكمن المشكلة في أن هذه التدفقات من رؤوس الأموال ذهبت في معظمها إلى الحكومات لا إلى تكوين رأس المال أو الاستثمار الأجنبي المباشر. وزاد إجمالي الدين العام والخاص في البلدان النامية بمقدار 60 نقطة مئوية من إجمالي الناتج المحلي منذ عام 2010 ولكن في معظم الحالات تراجع الاستثمار كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي. ويعد هذان العاملان مجتمعين أحد أكثر الاتجاهات إثارة للقلق بشأن آفاق التنمية. فارتفاع مستويات المديونية يجعل البلدان النامية عرضةً لصدمات خارجية، وللتأثُّر على وجه الخصوص بالعودة إلى السياسة العادية في الاقتصادات المتقدمة.
بالنسبة للاقتصادات المتقدمة، يتمثَّل أحد التحديات الرئيسية في التداخل المتزايد بين السياستين المالية والنقدية، وهو ما يثير مخاوف جدية بشأن استقلالية السياسة النقدية. وتتمثل نقطة البداية في تحديد أسعار الفائدة في ظل مستويات دين عام كبيرة جدا بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي. وثانيا، فإن الفائدة المتزايدة التي تدفعها البنوك المركزية للبنوك التجارية على أساس سعر يٌحدِّده البنك المركزي تُعبِّر عن تداخل واضح بين السياسات المالية والتنظيمية والنقدية. وثالثاً، شهدت إدارة البنوك المركزية للالتزامات التي ناقشناها آنفاً زيادةً فلكية مُتسبِّبة في خلق تحديات تتعلق في طبيعتها بالمالية العامة. ومع قيام السلطات المالية والنقدية بتعديل مواقفها بحسب قرارات البنوك المركزية المتصلة بآجال الاستحقاق لبعضهم بعضا، يبدو التداخل بين السياسات كبيرا وآخذ في الازدياد. ورابعاً، يُعزَى أكبر تداخل إلى الحجم غير المسبوق للتباين في آجال الاستحقاق للبنوك المركزية، حيث تُموِّل هذه البنوك محافظ أصول ذات آجال استحقاق طويلة باستخدام احتياطيات البنوك لليلة واحدة واتفاقيات إعادة الشراء العكسية. ويُؤثِّر التباين بين آجال الاستحقاق على تدفق رؤوس الأموال العالمية والسياسة التنظيمية المالية، وله أيضا تداعيات مؤسسية. فمع تراجع القيمة الدفترية للبنوك المركزية، واحتمال أن تصبح سلبية مع الانخفاض الحاد المستمر في أسعار السندات الحكومية في أنحاء العالم عدا اليابان، تزداد حاجة البنوك المركزية إلى دعم سياسي مطلق. ويمكن معالجة هذه الشواغل، لكن ما يبعث على القلق هو أنها لشدتها قد تطيل أمد نقص رؤوس أموال الاستثمار اللازمة للتنمية. ومع قلة القيود القانونية أو الدستورية الفعلية على أدوات الدين في معظم الاقتصادات المتقدمة، من المتوقع أن تستمر هذه التجاذبات لاسيما في أثناء موجات هبوط النشاط الاقتصادي.
وخلال السنوات التي تلت مرحلة النظرية النقدية انتقلت آثار الزيادة في تيسير السياسات المالية والنقدية في معظمها إلى أسعار الأصول في الاقتصادات المتقدمة. ويعود هذا بالنفع على الأثرياء الذين يحوذون هذه الأصول، لا على السواد الأعظم من السكان في وقتٍ يشهد مستويات غير مسبوقة تقريبا من التباين وعدم المساواة. وقد تباطأ نمو وسيط الدخل مع استثناءات قليلة؛ فبالنسبة للبلدان النامية ساندت تدفقات رؤوس الأموال الوافدة في معظمها الإنفاق الحكومي ومحافظ الأصول الحكومية، وتحقَّق القليل من النمو في الاستثمارات الأجنبية المباشرة أو إجمالي تكوين رأس المال الثابت.
إن تصحيح هذا الاختلال سيتطلَّب قراراً واضحاً مفاده أن زيادة الإنتاج أحد أهداف السياسة مثلما هو الحال لتدفقٍ يسترشد بآليات السوق لرؤوس الأموال على التنمية. وفي ظل ارتفاع معدلات التضخم توجد عدة أدوات متاحة عدا زيادة أسعار الفائدة: أولاً تهيئة الظروف اللازمة لزيادة إمدادات المعروض في مواجهة زيادات الأسعار، وتستشرف الأسواق المستقبل، ولذا فحتى إعلان مستثمري القطاع الخاص والحكومات عن إمدادات معروض في المستقبل سيكون مفيدا؛ وثانياً، في الاقتصادات المتقدمة، خفض حجم النفقات الجارية للحكومة ورفع كفاءة هذه النفقات بتوجيهها نحو الفقراء والأكثر احتياجاً؛ فهذا من شأنه أن يقلِّص الطلب غير الإنتاجي ويتيح مجالا لأسواق رأس المال العالمية لتمويل الاستثمار، وتخفيف الضغوط على التضخم؛ وثالثاً، خفض آجال استحقاق حيازات البنوك المركزية الحالية والمستقبلية من السندات؛ فهذا من شأنه أن يبعث بإشارة إلى الأسواق مفادها أن رأس المال يمكن أن يتدفق إلى أصول أخرى مثل رؤوس الأموال قصيرة الأجل ذات الفائدة المتغيرة التي تحتاج إليها منشآت الأعمال الأصغر حجماً لزيادة إنتاجها العالمي.
ومن شأن هذه التعديلات لسياسات الاقتصاد الكلي أن تؤدي إلى تحسين تخصيص رؤوس الأموال العالمية، فتتيح سبيلا إلى خفض التضخم، وزيادة قيمة طائفة أوسع من الأصول، واستئناف النمو لوسيط الدخل الذي يعتبر مفتاح تحقيق الرخاء المشترك. أمَّا البديل فهو الوضع القائم – من حيث تباطؤ النمو العالمي، وازدياد أسعار الفائدة، واشتداد الإحجام عن تحمل المخاطر، والأوضاع الهشة في كثير من البلدان النامية.
إن الأزمة التي تواجه تحقيق التنمية آخذة في التفاقم. فالبلدان النامية في خضم واحدة من أكثر فترات تشديد السياسات النقدية والمالية تزامناً على المستوى الدولي خلال العقود الخمسة المنصرمة. وتواجه البنوك المركزية في البلدان النامية بالفعل معضلات حرجة على صعيد الاقتصاد الكلي. ولكبح جماح التضخم الضار النابع من زيادة أسعار الغذاء والطاقة والسلع والخدمات المستوردة والمحلية، تضطر البنوك المركزية في البلدان النامية إلى رفع أسعار الفائدة، وسيواجه القطاع الخاص في هذه البلدان زيادة كبيرة في تكاليف الاقتراض. ويتفاقم هذا الأثر، إذ يتحول البحث عن العائد إلى إيثار للسلامة، وتتسارع خروج التدفقات الرأسمالية، وانخفاض قيمة العملات المحلية. علاوة على ذلك، يزداد الإحجام عن مخاطر الاستثمار طويل الأجل. وقد اتضح بالفعل الأثر السلبي على النمو. وفي الوقت نفسه، تأتي هذه الأزمة الجديدة التي أعقبت جائحة كورونا في وقتٍ تعاني فيه البلدان النامية تآكل مراكز ماليتها العامة، بما في ذلك ارتفاع مستويات المديونية، وانخفاض إيرادات الموازنة العامة. ولا تمتلك البلدان احتياطيات مالية كافية لتقديم دعم للبرامج المشجعة للنمو والإنفاق التنموي.
وثمة حاجة ماسة إلى زيادة الإنفاق على التعليم والتأهب في قطاع الصحة. وسيتعيَّن على حكومات البلدان النامية إنفاق موارد ميزانيتها المحدودة في هذه القطاعات بكفاءة أكبر. والاستثمار في مرافق البنية التحتية ضروري لتيسير خلق وظائف في الأمد القصير والنمو في الأمد المتوسط. وفي أوقات الأزمات، غالباً ما تخسر هذه الاستثمارات الحيوية. ويجب علينا مقاومة ذلك الاتجاه التاريخي من خلال التوسع في مشاركة القطاع الخاص وتحقيق الاستخدام الأمثل للميزانيات الكبيرة في الغالب للمؤسسات المملوكة للدولة.
يُمكِن أيضا تلبية متطلبات المالية العامة باتخاذ إجراءات حاسمة لتوسيع القواعد الضريبية ورفع كفاءة تحصيل الضرائب. وسيؤدي أيضاً تخفيف أعباء الديون من قبل الدائنين الثنائيين والتجاريين دورا مهما في البلدان الأشد مديونية. وفي الواقع، يرفع الحجم المحتمل لأزمة الديون سقف المخاطر، وقد يُحفِّز جميع الأطراف على الاهتمام بإيجاد حل عملي.
وفي الوقت نفسه، تستمر بلا هوادة أزمة المناخ الناجمة عن انبعاثات غازات الدفيئة. وتُؤثِّر الكوارث الطبيعية المرتبطة بالمناخ على الإنتاج الزراعي، وسبل كسب الرزق للناس في مختلف قطاعات الاقتصاد، والهجرة. ولمساندة العمل المناخي، يحتاج كثيرٌ من البلدان النامية إلى استثمارات ضخمة، وتمويل بشروط ميسرة، ومنح لتيسير تحولاتها في مجالات الطاقة والنقل والزراعة. ويلزم أيضا توفير موارد تمويل كبيرة لمساندة جهود التكيف والقدرة على الصمود في معظم البلدان النامية. ومحور التركيز الرئيسي لخطة عمل مجموعة البنك الدولي بشأن تغير المناخ هو تحديد مشروعات وسياسات مؤثِّرة ملموسة في هذه المجالات لبناء آليات وتسهيلات التمويل اللازمة لمساعدة المجتمع الدولي على مساندة المنافع العامة العالمية في البلدان النامية. وإننا نعمل مع الشركاء في القطاعين العام والخاص، والبلدان المساهمة، وأصحاب المصلحة للتغلب على هذه التحديات إدراكاً منَّا بأنه مازال هناك الكثير الذي يتعين عمله.
ويتطلب اجتياز هذه العاصفة الهوجاء، والتغلُّب على الانتكاسات التي أصابت عملية التنمية في الآونة الأخيرة اتباع مسارات جديدة على صعيد الاقتصاد الكلي والجزئي في البلدان المتقدمة والنامية على السواء. وتتضح بجلاء الحاجة الملحة في تقارير الأخبار اليومية عن التضخم وتغير المناخ والمجاعة والاحتجاجات المدنية والعنف. وتشارك مجموعة البنك الدولي مشاركة كاملة في مواجهة هذه التحديات، وتتحلَّى بالواقعية في تقييماتها، وتحرص على العمل لإيجاد الحلول، بما في ذلك معكم جميعا المشاركين اليوم.
شكراً لكم.